الخميس، 28 أغسطس 2008

اخر الشعراء "الجماهيرين"، وحارس الصورة الرومنسية للمنفى وفلسطين!


عن رحيل محمود درويش

ماجد المذحجي
رحل محمود درويش مغلقاً الباب خلفه على عهد الشعراء "الجماهيرين" في العالم العربي. إنه الشاعر الذي استطاع بمهارة نادرة ان يبني رصيداً واسعاً للحنين الشخصي نحو الاشياء الغامضه، ومجّد التعبير الذاتي للفرد، ومنح الشعر "النضالي" خصوبة جمالية مدهشة. متمكناً من بناء تجربه "فريده" استطاع أن  ينجو بها من "المتناقضات"، وافلت بها من الصدام مع جيل جديد يكره "الابوه" الشعرية التي شكلتها تجربته على مابعدها.
حول محمود درويش بقصائدة "فلسطين" إلى معنى شعري، ودمجها فيه، واستطاع ان يستثمر "إيديولوجيا فلسطين" لتصبح جهاز "تسويق" فعال له، لكنه كان اكثر حساسية في التعامل مع الامر قياساً إلى اخريين من شعراء "فلسطين"، حيث استطاع ان ينجو من عبء الاستمرارية ضمن ذات المنبر "الايديولوجي"، على عكس "سميح القاسم" و"توفيق زيادة" و"معين بسيسو" مثلاً، لينتج قصيدة مستقلة عن ذلك المسار، وتنفح قصيدته على العالم الداخلي له: إنه عالم مغري حين يخص شاعر "مركزي" لايمكن انكار كم هو "العام" متداخل في "الذاتي" لديه.
منذ بدء درويش كتابة القصيدة ابتكر مسار اخر في الشعر العربي، ويُمكن القول بثقة انه وصل بقصيدة التفعيله إلى السقف حيث يصبح الجهد في هذا "النوع" بعده أقل باستمرار، ولايضاهي الطاقة و"الالمعية" التي اضافها درويش على قصائدة. لقد استطاعت "جملة" درويش ان تهيمن على شكل وطريقة بناء قصيدة التفعيلة أكثر من أي "جملة" أخرى لشاعر ند له، وامتد ظله على اجيال كثيره صاغ تصورهم للشعر، والتعبير الذاتي عن النفس، وفق "صورته". وبالتأكيد أن احد اهم معالم "ذكائه" الشعري، وبالتالي امتيازه الاهم، هو في استطاعته تجاوز صورة "شاعر فلسطين" أو "القضية"، لتصبح "اسلوبيته" في الكتابة نسقاً متهافت عليه شعرياً.
لقد اصبح "درويش" علامة رائجة تكفل تسويق نفسها باستقلال عن الشعر ذاته! حول "المنبر" إلى نافذه شعرية متكاملة، واصبحت تلويحة يده، وادائه "الممسرح"، وعلاقته "الحميمة" مع القراءة العامة للقصيدة قيمة مستقلة عن نصه الشعري. إنه رواج جعله احد اخر الشعراء الذين يمتلئ ملعب كرة قدم للاستماع إليه.
استطاع درويش أن يُحضر فكرة المنفي "بكثافة" إلى الثقافة العربية، ورفد "المخيله" العامة بصور خصبه عن "المنفي" و"الغريب"، كما منح فكرة "الوطن" اعتباراً جمالياً عالياً حررها من الشحن الايديولوجي المباشر، وتمكن بمهارة من التلاعب بثنائية "الحنين" و"المنفى" بحيث اصبحت قصائده مصيدة عاطفية تلائم جمهور "واسع" لديه عصبية "رومانسية" مفرطه.
لقد ذهب "درويش" منذ بداية اشتغاله الشعري إلى لعبة لم يجيدها احد اكثر منه:المجاز. واستطاع ان يخفض "الطلب" على "المباشرة" التقليدية في الشعر العربي لدى "المتلقيين"، ملغياً بشكل فريد، بين شعراء جيله، المسافة بين الشعر "الحر" و"الجماهيرية"!
إن درويش هو احد اخر "النجوم" الكبار في العالم العربي، رمزيته زاحمت "السياسي" وامتلك لدى "الجمهور" موقعاً استثنائياً انفرد به بالفعل. وسيفتقد بالتأكيد لنكهة خاصة اضفاها على الشعر وعلى صورة "الفلسطيني" الغريب.
نشر في ملحق شرفات الثقافي - صحيفة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق