الخميس، 29 يناير 2009

عن المسؤولية في جريمة قتل الدكتور درهم القدسي!


ماجد المذحجي
تختبر واقعة قتل الدكتور درهم القدسي الكثير من الالتزامات في اليمن: التزام الدولة بإنفاذ القانون، والنقابات بالتضامن المهني، ومنظمات المجتمع المدني بالمناصرة الحقوقية، والصحف بكشف الحقائق والمسألة العامة، والمجتمع بالتعاطف وإنكار الجريمة... إنها واقعة يُمكن أن تشكل مفتاحاً للتغيير وإنجاز خطوة ملموسة نحو واقع جديد لا يتم فيه استضعاف الأفراد كونهم مدنيين وينتمون لاختيارهم المهني فقط، ولا يعبرون عن أنفسهم ضمن العصبيات الصغيرة، وبالتالي يحظون بالحمايات التقليدية التي توفرها القبلية أو غيرها.
حتى الآن يمضي أكثر من شهر والقضية تراوح مكانها، يقضي القتيل أوقاته في القبر، بينما يحظى القاتل وشركاؤه بالحياة، محتمين بدولة متخاذلة، وتضامن قبلي، ومواقف لا أخلاقية تبرر القتل تصريحا أو تلميحاً. ورغم أن الواقعة قائمة وعلنية، فإنها تخضع للتشويش بشكل رديء وغير مفهوم، ويحدث تكييف لسياق الجريمة يُمكن منه التماس العذر للجناة، ونزع التعاطف مع الضحية، بدون أي التزام بحق الأخير في الإنصاف، وحق أهله وزملائه في الإحساس بالعدالة والأمان، بعد أن تم "نحر" كل ذلك بسهولة مرعبة.
يمكن التأكيد تماماً على وقائع محددة في قضية الدكتور درهم، لكي لا يتم الخلط. لقد كان الضحية يُمارس مهامه كمسؤول عن قسم العناية المركزة في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، ولم يكن الطبيب المعالج لوالد الجاني الذي توفي. وما يتعلق بكون المتوفى، من آل المفلحي، دخل المستشفى مريضاً ومحمولاً على نقالة، أو متعافياً ويمشي على أقدامه، كما أشارت رسالة أهالي الجاني نشرت ضمن مقال للماوري، فهو سياق آخر لا تحتمله حقيقة ألاَّ علاقة مباشرة أو سابقة بين الدكتور درهم والمتوفى، تبرر غضب ولده، كما تشير الرسالة نفسها، باستثناء أن المتوفى كان يرقد في القسم فقط، ولا يخضع لمسؤوليته الطبية إلا بحدود كونه المشرف على متابعة حالته هو وغيره من المتواجدين في قسم العناية المركزة حينها. وما يتعلق بكون أسباب الوفاة طبيعية أو نتيجة خطأ طبية، فهو شأن لا يخص "درهم"، ويمكن بحثه لوحده، والتقرير بخصوصه باستقلالية عن واقعة القتل اللاحقة التي حدثت للطبيب.
إن ما حدث في واقعة القتل لا يتحملها شخص لوحده، كما أشار الكاتب منير الماوري في مقاله الأخير بصحيفة "المصدر"، حيث ارتكبت الجريمة من شركاء متضامنين وفق القانون، حتى وإن كان فردا واحدا من الخمسة الذين اقتحموا المستشفى والمتواجدين أثناء حصول واقعة القتل، هو من أغمد "الجنبية" في عنق وصدر الضحية، فالآخرون شركاء بحكم القانون، أعانوا أحدهم على القتل وسارعوا للخروج معه بعد ارتكاب الجريمة، ولم يقوموا بتسليمه؛ إذا افترضنا كونهم لم يكونوا راضين عما قام به، وهو افتراض تنفيه تسجيلات كاميرا المراقبة في المستشفى، التي وثقت تعاونهم مع الجاني ضد الضحية لا ردعهم له. كما أن المسؤولية الجنائية في الجريمة تمتد لكل فرد أو جهة شاركت في التستر على القاتل وشركائه وقامت بإخفائهم وتعطيل تسليمهم لجهات إنفاذ القانون.
إن الجريمة قائمة، وإحداثيتها علنية وموثقة عبر كاميرات المراقبة وشهود مباشرين، ولا تحتاج لأي اجتهاد يُعفي أي طرف شريك في الجريمة. ومسؤولية الجناة في ما حدث تحددها القواعد القانونية في المسائل الجنائية، التي تضبط وصف الاتهام وتقرر المسؤولية تماماً. والمطلوب تفصيل بسيط، هو: تسليم الجاني الأول وكل المتورطين في الواقعة، وما يتعلق بأي تفاصيل سابقة تخص أسباب وفاة المريض من آل المفلحي، فهم يتوفرون على كامل الحق قانوناً في إثارتها ومتابعتها، لكن مسؤوليتهم الأساسية، أخلاقياً وقانونياً، الآن، هي تسليم المتهم الرئيسي وشركائه، في حال علمهم بمحله، وهو شأن إذا تجاهلوه يضعهم تحت طائلة المساءلة القانونية بتهمة التستر على مطلوب للعدالة، وهي تهمة تنال من كل جهة أو شيخ يخفي محل الجاني وتوفر له الحماية من القانون.
لا يمكن تبرير الجريمة بأي مستوى؛ ذلك شأن أخلاقي وإنساني بالمقام الأول. إن مسؤولية الجميع هي إنصاف الضحية، لا تبرير القتل والتستر على الجناة. وإن وزارة الداخلية هي خصم حتى الآن، حيث لا تقوم بواجباتها في إنفاذ القانون على الجناة وضبطهم لتسليمهم للهيئات القضائية. وما يحدث حتى الآن من تراخٍ في القضية، سواء عن قصد أم عن غير قصد، فهو -ضمن معطيات القانون اليمني- إخلال بواجب وظيفي من قبل الجهات الأمنية المكلفة بالقبض على الجناة، وهو إخلال يتضمن جرم الامتناع عن تنفيذ أمر قضائي، باعتبار أن أمر النائب العام بالقبض على الجناة في قضية الاعتداء بالقتل على الدكتور درهم القدسي هو أمر قضائي.
إن إضراب الأطباء واعتصامهم الأسبوعي المتواصل منذ وقوع الحادثة هو موقف مدني متقدم ومطلوب ومشرف، ويفترض بوزارة الصحة الضغط لأجل القبض على المتهمين بقتل الدكتور درهم، باعتباره يعمل ضمن الحقل الطبي وعليها حماية حقوقه والعمل لتحصيلها، وليس تهديد المضربين من أجله بالفصل من وظائفهم! يجب على الجهات الرسمية أن تتحمل مسؤوليتها وتتوقف عن اتخاذ مواقف مستنفرة ضد أدوات العمل المدني التي يلجأ لها الأطباء، والتعامل معها باستعلاء ودون أي استجابة باعتبارها عملا عدائيا، وهو موقف "متشدد" يجدر بها اتخاذه بالأصل ضد القتلة والخاطفين وقطاع الطرق، الذين يتم التفاوض معهم ومنحهم مقابلا ماديا ضخما على الجرائم التي يقومون بها، بدلاً من معاقبتهم!
نشرت في صحيفة النداء

الأربعاء، 21 يناير 2009

بلاد ضيقة ومليئة بالكراهية


ماجد المذحجي
ماشا النهاري فرد بملامح يمنية معتادة، الزي واللهجة نفسيهما، ولا يمكن تمييزه في ظروف اعتيادية، لولا الزنار المتدلي على جانبي وجهه. إنه –ببساطة- مواطن يمني ينتمي للديانة اليهودية، قُتل لكونه كذلك. لم يقم قاتله بما هو استثنائي بالفعل، لقد نفذ ما في صدور الجميع فقط، استجاب لثقافة كراهية تبرر القتل يومياً، وقام بإعلان ما تؤمن به الغالبية في اليمن، حيث الدعوة لقتل المختلف دينياً وثقافياً، وأيديولوجياً أيضاً. جملة متداولة، ويتغذى الأفراد عليها باستمرار، عبر التلفاز والصحف، وفي خطبة الجمعة التي تختم الدعاء في كل أسبوع بـ"اللهم اهلك اليهود والنصارى!"، ليصبح كل ذلك مسوغاً سهلاً لقتل ماشا النهاري، ويمكن أن يصبح أيضاً سبباً للتقرب إلى الله، أو الانتصار لفلسطين. إنه قاتل لا يحتاج لتبرير جريمته. وما يقوله في المحكمة يتكرر في الجملة اليومية التي يتلقاها اليمنيون وينفعلون معها. لقد نطق جملة القتل التي نتبناها جميعاً فقط.
لقد استجاب اليمنيون الذين يدينون باليهودية لكافة أشكال التمييز الاجتماعية والقانونية ضدهم، كما فعل أسلافهم منذ قرون طويلة، ليتكيفوا مع المجتمع ويحظوا بالحماية والأمان، واستمروا بالحياة في هذه البلاد ضمن ظروف صعبة وشروط قاسية حرمتهم من أبسط الحقوق كمواطنين، ودون أي تذمر، وكان عليهم إثبات انتمائهم ووطنيتهم باستمرار: خضعوا لأعراف مناطقهم ومشايخها، وبايعوا الرئيس في الانتخابات الرئاسية، وأدانوا الاحتلال الإسرائيلي والهجوم على غزة، وتبرعوا بالدم للفلسطينيين، و... و... و... الخ. ولكن كل ذلك لم يعد كافياً كما يبدو الآن، فعليهم أن يدفعوا ثمن ثقافة الكراهية والتحريض القومي والديني، وغياب المساواة والعدالة، وعدم وجود دولة تضمن الحماية والحقوق لمواطنيها دون أي تمييز.
بعد مقتل ماشا، تمسك والده بحقه في إدانة القاتل والاقتصاص منه، وطالب بإنفاذ ما ينص عليه شرع المسلمين فقط، لم يطالب بالكثير. وكان أن عُرض القاتل على القضاء. يفترض أن يمضي الأمر ضمن ظروف طبيعية عقب ذلك، وأن ينال القاتل عقوبته؛ ولكن مقتل ماشا ومحاكمة قاتلة فتحت طاقة الكراهية حتى الأخير، وأفصح عن مجتمع عدواني بشدة، وعن دولة ضعفية ومهترئة لا تستطيع حتى توفير الحد الأدنى من الحماية لمواطنيها، ليتعرض اليمنيون اليهود للقذف بالحجارة من الأطفال في عمران، وللتهديد بالقتل باستمرار، علانية، في المحكمة وعبر رسائل الموبايل، من قبل أشخاص وجهات معلومة؛ ليصبح مآل الأمور أن تقوم الدولة بتهجيرهم من مناطق سكنهم بدلاً من حمايتهم وضمان حياتهم وتحصيل حقوقهم. إن كل ذلك هو عنوان عريض تماماً لدولة فاشلة تحمي العنف والكراهية، وتتواطأ مع التمييز وانتهاك الحقوق وغياب القانون.
على الأغلب –إذاً- انه لم يعد بإمكان اليمن احتمال 300 يمني يهودي فقط، والبداية السهلة هي نقلهم إلى صنعاء، وإن كان بالإمكان فترحيلهم خارج اليمن لضمان راحة البال كلياً، ويصبح على 20 مليونا أن يتطابقوا في المعتقد أخيراً، وربما عليهم أن يتطابقوا في المذهب أيضاً في وقت لاحق. يبدأ الأمر باليهود إذاً، ليصبح من السهل لاحقاً تصفية الآخرين؛ الإسماعيلية على الأغلب، وربما المتصوفة والزيود أيضاً، فمن يدري إلى أين تمضي أحوال التطرف والكراهية باليمن؟!
نشرت في صحيفة النداء

الأربعاء، 14 يناير 2009

القتل حين يفصح عن مصير اليمن!


 ماجد المذحجي
يفصح الشروع بالقتل، الذي تعرض له الدكتور درهم القدسي، عن ضعف عميق في الحماية التي توفرها المهنة والقيم المدنية في اليمن للمواطنين؛ حيث لا تشكل الممارسة المهنية، الناتجة عن تحصيل علمي، اعتباراً محترماً ومحمياً في مجتمع يسبغ تقديره فقط على "حمران العيون" من القتلة وقطاع الطرق والفاسدين، ويوفر لهم الحماية بسهولة، وحيث يصبح من السهولة تداول أحاديث، مختلقة أو حقيقية فهي تشير لوعي مخيف وبدائي، منسوبة لوزير الداخلية يبرر فيها قتل الدكتور بوفاة المريض ضمن منطق "واحد بواحد"، ليصبح الموقع الأمني الأول -ضمن هذا السياق- محلاً لتسويغ القتل وتجاوز القانون و"كلفتة" المطالب بالقبض على الجناة ومحاكمتهم!
حتى الآن المعتدي يحظى بالحماية من قبيلته، ويحظى الضحية بالتضامن من زملاء مهنته. الدافع فيما يخص الأول هو روابط العصبية البدائية، والثاني يتعلق بالانتماء لقيم المهنة وروابطها الحديثة. الفارق بين الدافعين هو الفارق بين "حالين" في اليمن وتصورنا لمستقبلها، حيث تتزاحم قيم بدائية وحديثة في مجتمع لم يقرر إلى أين يمضي، وحيث تصبح حماية الجاني تأكيدا على غلبة الاختيارات القديمة والبدائية وسيادة منطق العنف والقوة، وعلى مصير سيئ لدولة القانون والمساواة، وإنكارا نهائيا للوعد الرسمي المتكرر ببلد أفضل، ليصبح المواطنون عرضة للقتل والانتهاكات إن كانوا لا يحضون بحمايات القبائل أو مراكز النفوذ.
لم تكن السهولة في الشروع بقتل الدكتور درهم القدسي لكونه ينتمي لـ تعز، بالنسبة للجاني، بل لكونه طبيبا يمارس وظيفة غير مؤيدة بأي نفوذ أو قوة، سوى امتيازها الأخلاقي كمهنة إنسانية، وإن كان لا يمكن إغفال أن أحد الأسباب الضمنية في عدم القبض على المتهم حتى الآن من قبل الدولة لكون درهم ينتمي لمنطقة متخففة من العصبية القبلية وليست ذات غلبة وقوة ضمن المنطق السائد.
 لقد قام الجاني بالاعتداء عليه دون معرفة مسبقاً، معززاً بوحشية يغذيها منطق القوة العارية من الأخلاق، وثقافة عنف سائدة تحمي الأكثر قدرة على الفتك، مطمئناً لإمكانية العودة إلى القبيلة وحماية "الشيخ" في مواجهة جريمته وبأقل قدر من العواقب، حيث يمكن في أقصى حد تسليم "آخرين" من إخوته أو أبناء عمه كرهائن، في أداء رسمي وقبلي معتاد يتم به المماطلة بالقضايا حتى يهدأ الغضب بسببها ويمكن إما الفرار بالمتهم، وإما الضغط على أهل الضحية بعد أن ينفض التعاطف من حولهم للوصول إلى تسوية خارج القانون.
إن ما حدث هو اعتداء على تصورنا ليمن حديث ومحترم ومتقدم، وهو فعل لم يُبْقِ منطقة آمنة في المجتمع، لتصبح حتى المستشفيات أماكن غير محمية وغير آمنة، قانوناً وعرفاً، يسهل فيها القتل والاعتداء، وحيث يصبح تخلي الدولة عن مسؤوليتها في الحماية مؤشراً إلى انهيارها وانحدار المجتمع إلى غابة مليئة بالعنف.
يحاول الأطباء مناهضة تخلي الدولة الفادح هذا، ويقدمون نموذجاً تضامنياً مدنياً فريداً ينتمي إلى أدوات العصر، ضداً على عنف بدائي أعمى يعصف بكل شيء في اليمن. إن الاعتصامات والإضرابات التي يقومون بها هي تمكين للمجتمع بأسباب قوة حديثة وغير مؤذية، في مواجهة المظالم والانتهاكات، ولتحقيق المطالب وتحصيل الحقوق، وهي فعالية في تراكمها ما يُمكّن من وقف هذا الانحدار المرعب، ويقود إلى إنشاء حمايات خارج العصبيات البدائية للمواطنين.
يحتاج وزير الداخلية، وقادة الأجهزة الأمنية، والمسؤولون في الدولة، إلى القيام بواجبهم في قضية الدكتور درهم القدسي، لنطمئن -على الأقل- أن من يمارس مهنته لن يقتل ببساطة. ويفترض أن يقابل المجتمع مهنة إنسانية عظيمة كالطب بالتعاطف والتضامن أكثر. يحتاج أيضاً مشايخ القبائل لتقديم نموذج محترم في عدم حماية القتلة، وأن يطمئنوا المجتمع بأنهم ليسوا أعداءه ولا حماة للمعتدين على الأطباء أو المهندسين أو المعلمين، وكل الفئات المهنية التي تجعل من هذا البلد مكاناً صالحاً للعيش.
نشرت في صحيفة النداء

الجمعة، 2 يناير 2009

فـي ذكـرى جــارالله عمر


* ماجد المذحجي
 الاغتيال أداة سياسية لم يتم استنفادها بعد!
في أواخر شهر ديسمبر من عام 2002 أطلق علي جارالله السعواني رصاصته على الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، جارالله عمر، عقب انتهائه من إلقاء كلمة أمام المؤتمر الثالث للتجمع اليمني للإصلاح، ليودي به صريعاً في مشهد مفزع تناقلته وسائل الإعلام والفضائيات بذهول، وبشكل أحدث صدمة عميقة في الحياة السياسية والاجتماعية حينها. الاغتيال الصاعق لهذا السياسي البارز تمر عليه الآن ستة أعوام، وباستثناء مهرجانات جماهيرية صغيرة لأحزاب المشترك في بعض المحافظات، فلم تُحدث هذه الذكرى أي حماسة سواء عاطفية أم نقدية لدى الطبقة السياسية والثقافية اليمنية. إن استحضار ذكرى هذا الاغتيال يتعدى بدلالته الولاء العاطفي لنموذج ديناميكي استثنائي وخلاق في الحياة السياسية اليمنية شكله جارالله عمر، بل هو فرصة لإثارة نقاش موسع، واتخاذ موقف حاسم، ضد الاغتيال كأداة مقرة ضمنياً في الأداء السياسي اليمني، حضرت في تاريخه الحديث بكثافة عالية وتم التواطؤ على استخدامها ومنحها شرعية صامتة بين “المتنازعين”.
الاغتيال كخيار متكرر في “سياسة” اليمنيين
قبل حدوث هذا الاغتيال، الأكثر علانية وتبجحاً في الاغتيالات اليمنية، لجارالله عمر أمام حوالي 2000 مندوب حزبي وأبرز الرموز السياسيين اليمنيين الحاضرين في المؤتمر الإصلاحي، كان هذا الفعل نشطاً كخيار سياسي بين الخصوم اليمنيين. فمنذ اغتيال الإمام يحيى، ومرورا باغتيال النعمان الابن، ومحمد علي عثمان، وتفجير طائرة الدبلوماسيين، واغتيال الحجري، والحمدي، والغشمي، وغيرهم، وحتى موجة الاغتيال التي طالت القيادات الاشتراكية قبل حرب صيف 1994، لم يبدُ أن أحدا اعترض عليه بشكل جاد، أو مس شرعيته كحق يسوغ للساسة ومراكز القوى استخدامه ضد “أعدائهم”. لقد تعاقد الجميع على تسويغه باعتباره “حل” اللحظة الأخيرة حين تعجز شروط السياسة الطبيعية عن توفير تنحية ملائمة لخصم ما. لقد كان الاغتيال فعلا أكثر نشاطاً في اليمن الشمالي من ناحية تطاوله على رموز سياسيين كبار، قياساً بالجنوب الذي وفرت دورات الصراع الدموية التي حدثت فيه الحاجة لاستخدامه، وبدا أن الطبقة السياسية المحافظة التي هيمنت على السلطة شمالاً بعد أحداث أغسطس عام 1968 استخدمته بكثافة لتسوية النزاعات بين أطرافها ولتكريس الهيمنة في يد عصبة أصغر بداخلها، وتغذى هذا الفعل الدموي المستمر على بيئة ثقافية واجتماعية تتبنى العنف وتقر نتائجه، وتعجز عن توطين أدوات سياسية طبيعية لتسوية الخلافات.
تفاقم حضور الاغتيال في الحياة اليومية للمواطنين من نهاية عقد السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات أثناء المواجهات بين الجبهة الوطنية اليسارية ونظام الحكم في صنعاء، وسقط بسببه الكثير من كوادر ورموز الجهتين، ليصبح أحد أوراق النزاع العنيفة الأكثر أهمية في الصراع السياسي في الشمال، والذي تقف خلفه لعبة “كسر العظم” بين النظام في الجنوب والنظام في الشمال، ليصار إلى تهدئة مؤقتة في هذا النزاع المسلح، واستحضار متقطع للاغتيال، بعد وصول صيغة أقل راديكالية للحكم في الجنوب مثلها الرئيس علي ناصر حينها، وأنجزت اتفاقا سياسيا على التهدئة كان طرفاه الرئيسان ناصر وصالح.
الوحدة: استعادة نشيطة للقتل
لم تُحدث علانية العمل السياسي وتعدده بعد الوحدة عام 1990 تعطيلاً لهذه الأداة الدموية، باعتبار أن هناك ثقافة وأدوات سياسية سلمية جديدة يمكن أن يتم التراضي على ما تقره من تسوية للخلافات بين الخصوم السياسيين، فلم يتعدَّ الأمر عامين فقط حتى بدأ “الاغتيال” يحضر كحليف سياسي وورقة تفاوضية ضاغطة تستخدم ضد الحزب الاشتراكي والشخصيات الوطنية المستقلة، فابتدأ الأمر بمحاولة اغتيال عمر الجاوي، والتي سقط فيها الحريبي أول شهيد للديمقراطية وفق الوصف الذي أطلق عليه حينها، ليعصف الاغتيال بعدها بقائمة طويلة من القيادات الاشتراكية. تطور الحال وقتها نحو تعطيل كامل للخيار السياسي السلمي، واستخدم العنف كحل حاسم بالنسبة للشريك الشمالي في الوحدة، تجلى في الحرب الدموية التي قادها ضد “الجنوب” معتمداً على تعبئة شعبية وثقافية حقيقية ضد “الشيوعيين” و”الانفصاليين”.
انتهى الأمر بانتصار الرئيس علي عبدالله صالح في حرب 94، وتكريس السلطة بأكملها ضمن “الأسرة” والتحالفات القبلية العسكرية التي يعتمد عليها، منح تقديرا عاماً بانتهاء الحاجة للاغتيال من قبل القائمين عليه باستمرار بعد الوحدة، كون السلطة استقرت تماما بصيغة ملائمة بيد طالبها، ولم تعد هناك قوى تشكل تهديدا فعليا له. لكن مسار السياسة لم يمض نحو ذلك التقدير؛ ليتم اغتيال جارالله عمر بشكل علني وبشكل مرعب فعلاً، وبطريقة بدت كوسيلة ترويع للآخريين، علاوة على كونها تتضمن إزاحة لخصم يبدو أنه يسير بالقوى السياسية في اليمن نحو إنجاز تحالفات جديدة خارج الاصطفافات القديمة، ويستخدم أدوات مختلفة، ويستطيع استثمار اللحظة السياسية والظروف العامة بشكل ديناميكي وفعال يمكن أن يهدد استقرار السلطة المريح منذ صيف 94.
الإسلاميون قاعدة أيديولوجية للعنف
علاقة الإسلاميين بالعنف بالعام في اليمن متينة تماماً، وهي قائمة منذ تشكلهم كقوة سياسية رئيسة في البلاد تعتمد أيديولوجيتها على وجود نقيض مستمر (علماني)، وتتعرف كينونتها بإنكاره كلياً. وبحكم اعتماد النظام في الشمال على أداتهم الأيديولوجية والتنظيمية التعبوية بشكل ناجح في الصراع مع الأيديولوجية الماركسية التي كانت خصماً قوياً له حينها قبل الوحدة، دخلوا إلى جانب النظام في الصراع المسلح العنيف مع “الجبهة” عبر صيغة المعاهد الإسلامية في تلك المرحلة، علاوة على شراكتهم في منظومة إقليمية تمولها السعودية وبإدارة أمريكية وموافقة رسمية في تغذية العمليات الجهادية في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي “الكافر”. عقب الوحدة عمل الإسلاميون، عبر التجمع اليمني للإصلاح، على تعبئة المجتمع ضد الاشتراكي، وكان خطابهم العام واليومي يعمل على نزع حق الاشتراكيين في الحياة عبر توصيفهم المستمر بـ”أعداء الدين”، وهو ما شكل تبريراً دينياً ضمنياً لموجة الاغتيالات التي طاولتهم حينها. الصيغة الدينية التعبوية ضد الاشتراكي لم تنته فعاليتها بسقوط التحالف بين المؤتمر والإصلاح، ومقدرة جارالله عمر على هندسة تجربة سياسية فريدة اسمها “المشترك”، استطاعت أن تضع حدا للصراع المرير بين الإصلاح والاشتراكي، لتنشئ تحالفا جديدا في الحياة السياسية اليمنية شكل تهديداً حقيقياً لاحتكار السلطة اليمنية، وهو حدث كان دور جارالله البارز وفق التقدير العام أحد أسباب القرار الضمني باغتياله. لتمتد فعالية هذه التعبئة لاحقاً في وعي كثير من الإسلاميين الجهاديين، لم يتم إنكار “كفر” الاشتراكيين أمامهم من قبل شيوخهم، وهي تعبئة دينية متطرفة ومسكوت عنها تتيح القتل وتقر الاغتيال وتصفية المختلف، ومازالت تتغذى على قواعد متشددة تتم رعايتها وتوظيفها رسمياً، وأبرزها معاهد السلفيين وجامعة الإيمان.
إن اغتيال جارالله عمر حدث على يد إسلامي متطرف، ولكن هذا الفعل الدموي لم يكن معزولاً ضمن دافعه الجهادي فقط، ولم يحدث أن اقتنع أحد ببراءة الأمر من الامتداد الأمني فيه، وإن كان يمكن التأكيد مرة أخرى على كون التعبئة الدينية الحماسية التي نهض بها حزب الإصلاح سابقا ضد “الاشتراكيين”، والتي تكررت عقب الحرب أيضاً وامتدت حتى الآن عبر رموز إسلاميين -أمثال: الزنداني، الذارحي، والتاج، وغيرهم- على “المثقفين” و”الصحفيين” والنخب اللبرالية الجديدة في اليمن، برعاية رسمية وأمنية ضمنية، أسهمت بشكل كامل في هذه الواقعة الدموية التي ذهب ضحيتها جارالله، رغم أنها أتت متأخرة قياساً لفترة الذروة في اغتيالات ما بعد الوحدة التي حدثت بين عامي 92 و93. ويمكن بالتأكيد لهذه التعبئة والتحريض الديني المستمر أن يستخدم لاحقاً في تسويغ أي قتل واغتيال ما دام جذره المتطرف يتلقى تغذية مستمرة.
لم يستنفد الاغتيال بعد
لقد تلقى الناس وفاة الكثير من الشخصيات العامة القوية التي صنفت بالاستقلالية السياسية في علاقتها بالسلطة، أو عملت في إطار قوي على معارضة سياسته، بكونها تصفية من نوع ما، وإن لم تأخذ هذه التصفية شكل الاغتيال العلني، إلا أن التقدير كان دوماً يخضع الحوادث المرورية مثلا لكونها مؤامرة من نوع ما، مثل تلك الحادثة التي أودت بحياة اللواء يحيى المتوكل، والحوادث التي أودت بآخرين، ويرى في أزمة صحية طارئة تودي بحياة فرد كونها تسميما مثلا، حيث تم تلقي الوفاة المفاجئة للصحفي والبرلماني عبدالحبيب سالم في هذا السياق، ليمتد الحديث عن الاغتيال باستمرار شكل الشائعات والظنون العامة باستمرار في وصف أي حادثة تؤدي لوفاة إحدى هذه الشخصيات السياسية ثقيلة الوزن. بالطبع لم تكن واقعة اغتيال جارالله عمر آخر محطات هذا الفعل الدموي، فمازال الاغتيال حاضراً في خلفية العلاقات السياسية وضمن أدواتها، يبدو ذلك ضمن الأخبار التي تتداول عن محاولة اغتيال الرئيس الأسبق علي ناصر محمد أكثر من مرة في سورية ومصر، وما أثاره أيضاً رئيس الوزراء السابق حيدر ابوبكر العطاس في لقاء صحفي أخير بـ”النداء” عن وجود مخطط لاغتياله.
إن المناخ العام في اليمن لم يستبعد الاغتيال أبداً، بل هو يرجحه باستمرار ويستند في ذلك إلى الحقائق والظنون، باعتبار أن صيغة السياسة في البلد مازالت تستمد أدواتها من الذهنية القديمة نفسها، ذات الهوى الأمني والخيارات العنيفة، التي أدارت البلد باستمرار.
كان يمكن لمقتل جارالله أن يحدث فرقا
فشل الجميع في استثمار اغتيال جارالله عمر لتصفية الاغتيال كأداة سياسية صامتة، ووضع قواعد العنف وأسبابه في قلب النقاش والإدانة العامة، ولم يتمكن أحد من استثمار مد شعبي وعاطفي واسع اصطف بشكل واسع منكراً هذا الاغتيال، وكان يمكن أن يستجيب لأي خطوات ومواقف تحجم “القاعدة” السلفية الجهادية التي غذت السعواني بأسباب القتل وثقافته، ولم تنكر عليه أبداً وبشكل صريح شرعية فعله بعد قيامه به. إن اغتيال جارالله شكل فعلا صادماً بشكل حقيقي بحكم الرمزية الشديدة التي يشكلها نموذجه السياسي والإنساني والثقافي، ولذلك فقد أثار انفعالاً وتعاطفاً شعبياً جارفاً حينها. الأمر لم يتعدَّ ذلك الانفعال، ولم يحدث نقاشا واحتجاجا واسعا حول فعل الاغتيال، بشكل يتعدى مسؤولية الحزب الاشتراكي في معاقبة القائمين على اغتيال أمينه العام المساعد، لينسحب على المجتمع كله، باعتبار أن ذلك يقع تماماً ضمن مسؤولية جميع النخب السياسية والمدنية، لتصبح تلك “الروزنامة” التي تتضمن تأريخاً لكم مر على اغتيال جارالله عمر، وصورته، وعبارة “لن يمروا” بجانب ترويسة صحيفة “الثوري”، تذكيراً أسبوعياً مستمراً على فشل الطبقة السياسية والمدنية والثقافية اليمنية في وقف الاغتيال وسحب الشرعية منه، واستثنائه نهائياً من قائمة الخيارات التي يمكن أن تلجأ لها السلطة في مواجهة خصومها.
.....................