الثلاثاء، 9 ديسمبر 2008

عن الرجل الذي يحتفظ بشاحنة معطلة في صدره

ماجد المذحجي
التفاصيل التي يتم تربيتها بعناية في الجمجمة حين الأشياء –بكثرتها- لا تداهمه خلسة بأعبائها.. وحين تكون الجدران، ذاتها جدران الحجرة، عارية من الاستفزاز ومتواطئة على الإمعان في مشاركته تربية هذه التفاصيل الزنخة التي يحفل بها، لا تكون مهمة جداً ولكنها لذيذة نوعاً ما ومتيسرة فقط ليفعل بها ما يظنه ملائماً. لاشيء مغرٍ بالفعل في الخلفية المتوقعة لكي يكون رافعه لهذا التوهم الرطب الذي تمدد في حجره وأصبح كائناً بقوام مُكتمل ويزعق مطالباً إياه باحترام خصوصياته وما يظنه هو حقهُ الأبوي باعتباره استنزف عنايته وانشغاله. إن حضوره الممتلئ أصبح له متطلبات يجب العناية بها وعدم تجاهلها أو التقصير تجاه ضروراتها النفسية للطرفين. المزعج الذي يهدد التصالح البطيء معه هو أن استقلالية مزاجه وكيانه الداخلي لم ترتب انفصاله المادي عنه، فشروط الحمل الفسيولوجية المؤدية لِهَكذا وضع لم تكن واردة منذ البداية، الأمر الذي عطل وجود نتائج طبيعية، وجعل القضية شائكة وملتبسة بينهما. المزعج أيضاً هو أن انزعاجه حوله إلى شاحنة معطلة تماماً في صدره، وأن أرقه من هذه الشاحنة ومن احتلالها لكل هذا الحيز ترافق مع ارق عاطفي يخص المرأة التي لم يستطع أن يستوعب تعلقها وانزعاجها من مسألة عدم إهدائه ورده لها. إن تعطل هذا الكائن عن أن يكون أي شيء اقل حجماً من شاحنة معطلة تجثم على كل المساحة الفارغة في الصدر – المساحة المفترضة لكل الانفعالات والتفاصيل – لا يمنحه فرصةً لإعادة تدوير أي أفكار أو انفعالات عاطفية أو غير عاطفية تخص المرأة ووردتها المفترضة. بل أن المتبقي ممتلئ تماماً بأسئلة من قبيل:
ما هي ماركة هذه الشاحنة؟، ومن هو مالكها؟، ولماذا هي مُعطلة؟، وماذا يحدث بالضبط في كابينة السائق ذات النوافذ المعتمة؟، وكيف يمكن إصلاحها وجعلها تغادر؟...
هذه الأسئلة وغيرها هي ذاتها الأسئلة التي تستهلك لقائه بالفتاة المشغولة بوردتها المشتهاة حين يجلسان متقابلين على الأريكة وبجوارهما طاولة دميمة ذات قوام قصيرة تحمل على ظهرها فنجانين متقابلين أيضاً وركوة قهوة ومنفضة ممتلئة بالأعقاب وبقايا علكة ممضوغة، بينما تتسرب الموسيقى من جهاز الكومبيوتر دون أن تثير مبرراً واحداً للإنصات لها.. فقط يعلق صداها على الجدران المطلية بشكل سيء بلون ازرق بدأ بالتقشر موحياً بإحساس هائل بالحياد والتأفف. ليبدأ مباشرةً بتبرير علاقته المعقدة والمعدومة بالورود باعتبار ذلك هو السبب الأكيد والحقيقي لإهماله ونسيانه الدائم جلب ورده لها، ومن ثم يدلف لها من أحد شقوق الحديث نحو أرقه المزمن والمتعلق بهذه الشاحنة المعطلة في صدره التي أصبحت تهيمن عليه وتضغط أفكاره، والتي تحولت إلى كابوس بشع يجد نفسه فيه يركض في زقاق طويل ومسدود في نهايته بينما يتعالى هدير محرك الشاحنة وهي تُطارده فيه. أو يحدثها عن الكابوس الأخير الذي استيقظ منه وهو يتعرق ويصرخ لأن الشاحنة كانت تدوس على صدره بأقدام ضخمة وتوشك على أن تدوس رأسه أيضاً. وهكذا ينقضي اللقاء وهو مسترسل بالحديث عن شاحنته وعن وردتها التي تحلم أن تحصل عليها منه. الوردة التي قالت له أنها ستساعدها على تفهمه وعلى نزع حساسيتها وغيرتها – المفرطة – من النساء اللواتي يحصلن على وردة من رجالهن. وان هذه الوردة ستساعدها أيضاً على التخلص من ارقها الطارئ ومن هذا الكابوس المفاجئ الذي أزعجها مؤخراً والذي ترى فيه شاحنة ضخمة تمد لها يداً تحمل ورده وهي تبتسم قبل أن تسحقها وتبدأ برشقها بآلاف الورود الملونة التي تدفن جسدها تماماً تحت الأكوام الكبيرة التي تراكمها.
من الغريب فعلاً أن هذه الشاحنة صارت مسوغاً لاعتنائها به. فهي تُهاتفه صباح كل يوم لتطمئن عليه وتسأل عن أخبار شاحنته المعطلة وتحكي لك عن نوع الوردة التي تُريدها، أهي جوري أم ياسمين أو زنبق، وعن الإناء الذي ستضعها فيه، أو عن تسريحة الشعر التي تظنها ملائمة لكي تحط الوردة فيها. إن الأشياء من حوله صارت متعلقة تماماً بالحيز الفارغ الذي يجده في صدره جوار الشاحنة. وإن هذه الشاحنة أصبحت تدس انفها بإصرار في كل شيء يتعلق بحياته وما يندفع نحوه بثقة أو تخاذل. إن هذه الفتاة المسكونة بوردتها وصفته بأنه يُمارس الجنس كشاحنة تماماً، وقالت – وهي تقهقه – إنها خشيت أن يتعطل وهو فوقها كما تعطلت تلك الشاحنة في صدره. كما أخبرته أن عيناه – وهو في السرير بجوارها – كانتا تُضيئان في الظلام كمصابيح الشاحنات في الطرق الطويلة. وانه يُصدر غازات من مؤخرته بذات قدر الدخان الذي تُطلقه الشاحنات. حتى أنه لاحظ مؤخراً في المرآة أن ملامح وجهه بدأت تصير مثل ملامح الشاحنات، وأن هناك سحنه (شاحناتية) واضحة لديه. وإن الناس يتعاملون معه بحذر كما يتعامل سائقي السيارات الصغيرة مع الشاحنات، وفتاة الوردة صارت تدلـله مؤخراً بـ ( شاحنة حياتي )... 

***
وردة واحدة فقط لو جلبها لي اليوم ستُمكن هذه الحجرة من تعديل مزاجها البائس تماماً؟!....
وسيستطيع من خلالها أيضاً أن يعيد ترتيب احدايثاتها بشكل مختلف: الطاولة الدميمة بأقدامها القصير كانت ستتحول إلى طاولة ممشوقة القوائم وذات مزاج أكثر تعاوناً مع ركوة القهوة والفنجان– والذي يمكن استبدالهم بنوع أكثر جمالاً وطزاجة من المشروبات ويكون متناسقاً مع الشكل الجديد للطاولة.حتى الأزرق المتقشر على الجدران سيتماسك أكثر ويُلمع نفسه حتى يستطيع مغازلة هذه الوردة والتكيف مع حضورها، وسنجد أيضاً الكثير من المبررات للاستماع لموسيقى مناسبة لشخصين يضعان بقربهما وردة. ..
لربما كنتُ أيضاً سأحتفظ بالعلكة في فمي، واجعلها (تطرقع) أكثر بشكل مغر، ولن أدخن كثيراً كي لا يظل هو منشغلاً بمراقبة المتبقي من سجائر في علبته!
ياااه، مازلت استغرب بالفعل كيفيه استخدام هذا الشخص لحياته بكاملها دون التفكير بضرورة وجود وردة واحدة على الأقل؟! وردة واحدة يستخدمها لإقناعي بأنني سيدة أستحق وردة.  وهي الوردة ذاتها الكفيلة ربما بإغواء الشاحنة المعطلة في صدره وجعلها تُزيت مفاصلها وتجعل زجاج كبينتها لامعاً ونظيفاً وربما ستؤدي إلى نتائج أخرى غير متوقعه، مثل مغادرة بعض ما يدور من أحداث أو أحاديث بداخل الكابينة ذات النوافذ المعتمة إلى الخارج، أو قد تساعد هذه الشاحنة على التفكير في معاودة التجوال في طرق مفتوحة وأكثر رحابه من هذا الصدر عوضاً عن البقاء معطلة وعدم إمكانية الحركة في الحيز المتبقي في صدره إذا فكرت بتلين مفاصلها في يوم ما. ورده واحدة يقدمها لي هذا الرجل ستمنحني آلاف الفرص للتفكير بامتيازات أخرى يمتلكها غير أنه رجل يحتفظ بشاحنه معطلة في صدره ... ثم ماذا يعني أن يحتفظ الرجل بشاحنه معطلة في صدره؟!!. أليست تشبه احتفاظ طفل بطائرة مُقاتله من الطراز الحديث سيقودها حين يكبر لمهاجمه أعداء مفترضين.. أو حتى تربيه الرجال لأحلام يوميه في صدورهم تتعلق بمقاسات وموصفات النساء اللواتي يلقن بفحولتهم. . لا أدري بالفعل ماذا يعني انشغاله غير المبرر بالشاحنة، حتى أنني فكرت بأن أعتلي كابينة هذه الشاحنة وأدير محركها ثم امسك بمقودها بيدي لأبدأ في الاندفاع نحوه وهو يركض بفزع في ذلك الطريق الذي سيكون مغلقاً في آخره بورده ضخمه وغاضبه تنظر إليه بتحفز تماماً . اوووف، هذا الشخص المعطل تماماً كشاحنة لا يستطيع أن يفهم أن وردة واحدة قادرة على جعل صدره أكثر سعة بكثير مما هو عليه الآن، وستجعل هذه الشاحنة تبدو كقطعة صغيرة وبائسة لا تشكل ازدحاماً ولا أرقاً، ويمكن أزاحتها بسهولة وإهمال لصالح أشياء أخرى أكثر أهمية أو أكبر حجماً وتناسب صدراً ضخماً وواسعاً كصدره!
الغريب انه لا يفهم أن عدم اصطحابه لوردة واحدة أبداً في مواعيد العاطفية السابقة هي السبب في احتفاظ أولئك النسوة اللواتي يقابلهن بملامح متجهمة و إصرارهن على عدم طلب أي نوع من العصائر أو المشروبات الكحولية وطلب فنجان واحد أو اثنين دائماً من القهوة التركية الخالية تماماً من السكر!  لا ادري بالفعل كيفية التعامل مع شخص يحتفظ بشاحنة معطلة في صدره؟؟!، ويزعجني بالفعل أن لا يدرك مدى كرهي للشاحنات بملامحهن المعدنية المربعة الخالية من الرشاقة واندفاعهن غير المهذب في الطرق، بالإضافة إلى أصواتهن الحادة الكفيلة بأحداث تشقق دائم في الجمجمة. ربما لو كان اختار عربه اقل حجماً وأكثر جمالاً، وتكون ملائمة لصعود سيده تكون للتو حصلت على وردتها، التي ستدفعها لتفهم ملامساته الحميمية لجسدها وهو يقود، سأستطيع أن أتعاطف دائماً معه واقترب منه أكثر كلما قعدنا على الأريكة الوحيد في غرفته، ولن أتردد في تفهم نسيانه -لبعض المرات- جلب ورده لي، ولربما أعاود التفكير في رفضي أن أبدل حذائي الرياضي الذي يقول إنه قبيح بالإضافة إلى انه يحمل كميه اكبر من الأوساخ و الأتربة من تلك التي يحملها حذاء أخر ذو كعب عالي مثلاً.. يجب بالفعل أن يفهم أن ورده واحدة ستحسن أشياء كثيرة وستدفعنا للتفكير بأنواع كثيرة من التسلية نقوم بها معاً، وأن شاحنته ذاتها ستشعر بالغيرة الشديدة من هذه الوردة، ولربما تندفع إلى الخارج غاضبةً لمطاردة هذه الوردة ودهسها مُتيحه له الفرصة أن يغلق صدره بإحكام قبل أن يبدأ التفاوض معها حول شروط عودتها الملائمة له والتي ستكون من ضمنها:
إجبار هذه الشاحنة على أن تمارس الحمية حتى تصير أكثر رشاقة و أقل حجماً، وأن تستبدل أيضاً نوع زجاج الكابينة المعتم بزجاج شفاف، بالإضافة إلى أن تحرص على تنظيف مخلفاتها ومغادرة صدره كلما طلب منها ذلك لكي يشغله بأشياء أخرى قد تكون عاطفية أو عائلية أو شخصية يحتاج أن ينشغل بها لوقتٍ ما، وأيضاً أنه يجب عليها التخلي عن فكرة مغادرة صدره دون إذن مسبق، أو الوقوع في نوبات غضب أخرى و الخروج لدهس وردة تخصه هو أو تخص أحد ما يكون مقرباً منه....
يجب إذاً أن يقتنع بالفعل أن الوردة التي سأحصل عليها منه ستكون محنكة كفاية لإقناعي بالاستمرار في علاقة مع رجل يحتفظ بشاحنة معطلة في صدره، وستمنح هذه الوردة فرصة أن تمارس هواياتها في إغاظة شاحنته البدينة وإعادة تصميم ديكورات حجرته و إنقاذ علاقاته العاطفية من الفشل الدائم، بالإضافة إلى تحسين شروط حياته اليومية تماماً.. 

***
لماذا يجلب الرجل وردة لامرأة ما؟ على الأغلب فأن أولئك الذين يفعلون ذلك لا يحتفظون بشاحنات معطلة في صدورهم، وإلا لكانوا أكثر انشغالاً من أن يفكروا بقضية مثل قضية جلب ورده من اجل امرأة...
إنني شخص احتفظ بشاحنة معطلة في صدري، وهذا شيء لا يمكن أن يدركه رجال متفرغين لإهداء الورود للنساء، أو حتى أولئك الذين يمتلكون صدور فارغة تماماً لم تعبر بها مصادفةً شاحنة أو عربة صغيرة أو حتى دراجة هوائية. إنهم بالفعل بحاجة لتجريب الشعور بتواجد شاحنة كاملة معطلة في الصدر كي يستطيعون تفهم أن انشغال رجل يحتفظ بشاحنة معطلة في صدره ليس ترفاً ولا إخلالاً بلياقة مفترضة، وليس مؤشراً لعدم اهتمامه بجلب ورده، بقدر ما المسألة تتعلق بأن هذه الشاحنة لم تفكر مسبقاً أن تعطلها في صدر رجل قد يسبب انزعاجاً لامرأة تنتظر وردة منه. أنا اعرف بالطبع أن تقديم ورده هو شكل لائق ومفترض خصوصاً لامرأة مشغولة بانتظارها، ولكن يضايقني عدم تفهمها لأرقي بهذه الشاحنة الضخمة كفاية لأن ينشغل بها أي شخص يشاهدها وليس فقط من يحتفظ بها في صدره. وأن المتطلبات الشخصية لهذه الشاحنة كفيلة بجعل جدولي اليومي ممتلئ تماماً بمتابعتها.
إن تعطل هذه الشاحنة في صدري دون حراك يثير قلقي أحياناً، فهي من هذا الموقع الذي تحتله تستطيع اختلاس السمع لما يدور من أفكار بداخلي، وهي أيضاً تستطيع التلصص على كل الأسرار الشخصية التي احتفظ بها خفيةً عن الأخريين. ولو غادرت يوماً ما صدري فهي ستحتفظ بكل هذه الأسرار معها دون أن تقدم ضمانة واحدة بعدم إفشائها – ربما من قبيل التسلية أو النميمة– لشاحنات أخرى، أو لأي شخص قد يهمه الإنصات بعناية لتجربة شاحنة ظلت فترة طويلة في صدر رجل!!..
أنا أيضاً – حتى الآن – لا ادري كيف تستطيع هذه المرأة أن تنشغل بفكرة الحصول على وردة مني وتلك الشاحنة مازالت مُعطلة في صدري، وأن تبدي تأففاً واضحاً على ملامحها من لون جدران غرفتي وشكل طاولتي المفضلة ذات القوائم القصيرة، هذه الطاولة الرائعة التي أمد ساقي عليها حين استرخي على الأريكة وأنا أشاهد فيلم ما على شاشة الكمبيوتر المقابلة، والتي لا تضطرني أبداً إلى استخدام ذراعي الاثنتين لدفعها حين ارغب بإزاحتها إلى مكان أخر، هذا بالإضافة إلى حجمها الملائم لاستيعاب عدد محدود فقط من الصحون والأكواب إذا استضفت أحداً في الحجرة للسهر..
 أفكر أحياناً أن هذه الشاحنة قد لا تكون مُعطلة كما تدعي، بل هي مختبئة في صدري من شيء ما، أي ربما تكون لها سوابق خطيرة ارتكبتها في ما سبق وترغب في الاختفاء من الذي ترتب عليها، أو ربما تكون لها ميول شاذة تجاه صدور الرجال، وإلا ماذا يجبر شاحنة ما على البقاء مُعطلة في صدر رجل لم يجلب وردة في حياته إلى امرأة..
بالفعل أنا لم اجلب وردة أبداً لأي امرأة تعرفت عليها، وكنت أفكر دائماً أن هذه الوردة قد تكون مبرر لأي امرأة للحديث عن سعادتها في البداية ومن ثم عن أنواع الورود التي تُفضلها وعن الورود التي قدمت لها في مناسبات متعددة مثل عيد ميلادها، أو في حفلة تخرجها من الجامعة، والوردة التي حصلت عليها في أول موعد، وباقة الورود المميزة التي قدمتها لصديقتها حين أنجبت لأول مره، والكثير من التفاصيل المملة المتعلقة بالورود وعلاقتها بها..
يزعجني أيضاً أنني لا اعرف أية تفاصيل تتعلق بتاريخ هذه الشاحنة الشخصي، مثل موديلها، وماركتها التجارية، وأين صنعت، وأنواع البضائع التي كانت تنقلها، وهل مواصفاتها ملائمة وتتطابق مع المواصفات الوطنية، ونوعية السائقين الذين قادوها سابقاً، وهل أصيب محركها بأعطال أدت إلى توقفها، وهل تم استبدال قطعها التالفة بقطع غيار أخرى أصلية أم لا؟؟. أو حتى عن ما يدور بداخل كابنتها المعتمة من أفكار عني قد تكون غير محببة؟! إن هذه التفاصيل مهمة لكي أستطيع أن أتفهم الظروف التي أحاطت بها قبل أن تتعطل في صدري، وستساعدني تماماً على ترتيب مناخ ملائم لنا الاثنين. يجب أيضاً على هذه المرأة أن تتخلى عن فكرتها بأنني شخص لا امتلك إحساساً بالجمال، فقط لأنني لم أقدم لها وردة!!. إن هذه فكرة سخيفة وكان عليها أولاً أن ترتدي ملابس أكثر جمالا وأناقة من هذا ( الجينز ) المغبر والقميص الذي تطوي أكمامه بشكل سيء، وان تستبدل أيضاً حذائها الرياضي بأخر من تلك الأحذية النسائية ذات الكعب العالي والتي ستبرز جمال قدميها وتمنح الساقين مشهداً مثيراً ومتناسقاً حين تمشي، وهو الأمر الذي سيجعلني ادعوها إلى أماكن أخرى سينتبه نزلائها حتماً أن المرأة التي ترافقني لا ترتدي حذاءً رياضياً. وعليها التأكد تماماً أن رجل يحتفظ بشاحنة مُعطلة في صدره لا يقل شأناً أبداً عن أي رجل آخر قد لا يحتفظ بشيء في صدره. بل أنه شخص مميز تماماً، فهو الشخص الوحيد الذي اختارته شاحنه لكي تتعطل في صدره.. 
نشرت في مجلة غيمان العدد السادس

الاثنين، 24 نوفمبر 2008

في الحديث عن كون "التهامي" مسكيناً


ماجد المذحجي
في العادة يضمر حضور ( الحديدة ) في المشهد العام إلى الحدود الدنيا، وبالإضافة إلى كونها مُحافظة متروكة في النسيان والإهمال، ومقترنة بتفاصيل محدودة هي القات " الشامي "، و البحر، والفقر، والوفرة " الجنسية " الرخيصة. فلا يتعدى تلقيها، وشيوع حديث عنها، من حين إلى أخر في التداول الشفاهي اليومي -  بشكله البسيط والمعتاد في أفواه الناس، أو الأكثر ضجيجاً والمدون في الصحف - صيغة " الخبر " الطارئ حول انتهاكات وحشية الطابع تطال الفرد هناك، وتفصح عن هامشية كينونته في الجغرافيا التهاميه. وهو شأن يُمكن عزوه مباشرة إلى سيطرة علاقات، وتراتبيات قاسية، ذات مزاج " إقطاعي " على المجتمع، تم تعزيز نفوذها ووحشيتها، وتمكينها على احتكار الفضاء العام بتواطؤ سياسي من قبل " السلطة "، وغض نظر غريب وغبي من " المعارضة " والفعاليات المدنية، بغرض احتكار التمثيل السياسي لهذه المحافظة، والسيطرة على تفويضها الانتخابي ( وهو الشأن المتحقق للسلطة بشكل مُطلق، ولا تُنافس فيه في كل الدورات الانتخابية )، بشكل يُعزز من محاجتها اللاحقة لخصومها السياسيين، والتي تتكثف بالامتلاك الحصري لكل التمثيل الوطني!!.
يحضر بالعموم تمييز حصري يختص به " التهامي " في الوعي الاجتماعي البسيط والسائد، ويصنفه، أو يفرزه إجمالاً في خانة " المسكين "و " مكسور الحال ". وهو تمييز في هذا الوعي الأولي، يستحضر - غالباً وبشكل ما - مُقابله " القوي " في بعض المناطق، و " الحاذق " بشكل اقل في مناطق أخرى على المستوى المحلي. مما يجعله ضمناً في موقع اقل من ناحية القيمة أمام نظرائه في الرقعة الجغرافية اليمنية. في ظل استبطان الأفراد في المجتمع، لنموذج تقيم ثقافي وقيمي، مُتعاقد مع فكرة القوة، ويُهيمن عليه سحر العنف، مما يجعله يُعلي دوماً من قيمته الاعتبارية، ويحترم الفرد القادر على تأكيد وجوده، بين أنداده، عبر مفردات هذه  القوة، وتعبيراتها العنفيه المختلفة!. ويأتي غياب " الجنبية " - كرمز يُكثف بشكل بالغ الدلالة هذا التعاقد الاجتماعي العام مع العنف، والميل له - عن الحضور بشكل مُلفت في خاصرة الفرد التهامي، مثل حضورها لدى الفرد في المناطق المجاورة، مثل حجه، وذمار، و المحويت، وتعز. ليؤكد إجمالاً على هذا الانطباع الشائع، أي على كون هذا التهامي " مسكينا ً "؟!. باعتبار عدم إقباله على ارتدائها،  يُفصح عن كونه غير ميال للعنف، و لتعزيز كيانيته، وقيمته الاعتبارية، برمزية القوة الكثيفة التي يستبطنها ارتداء هذه الجنبية، وتوظيف الحمايات التي ترتبها أيضاً لصحابها. فاليمني بالعموم، يتحصل من هذه " الجنبية "، على تأكيد حقه المشروع باستعمال العنف، وتأكيد حضوره " القوي " عبرها في مقابل الأخر، سوا لحماية حقه منه، أو لتعسف حقوق هذا الأخر في بعض الأحيان، حسب ما يُتيح له موقعه في التراتبيات الاجتماعية من سطوة ونفوذ، والتي يُشكل نوع الجنبية وطريقة ارتدائها، أسلوباً في تمييز الأفراد عن بعضهم، بناءاً على قيمتهم الاعتبارية في المجتمع. ويُعزز من كون هذا " التهامي " مسكين، تفصيلات أخرى إضافية، منها: نعومة لهجته، وانخفاض نبرتها الصوتية، وامتلاؤها بالحس الجمالي. قياساً بخشونة اللهجات الأخرى، وامتلاؤها بتأكيدات القوة الصوتية، مثل ارتفاع النبرة فيها بشكل عام، وكثافة حضور البدن كمعيار قوة في التعبيرات، وجفاف الصورة الجمالية في المفردات، وضعفها في التعبير العاطفي عن الفرد، و.. الخ. ويبدو لي بشكل ما،  أن تميز " تهامة " كمنطقة غير وعرة، وسهله، غير محمية بتكوينات جغرافيه صعبه، وممانعة، سبب إضافي في استضعاف التهامي، وضعف ثقافة " العنف " لديه. فهي منطقة منبسطة على العموم، بتجاوز الاستثناءات القليلة طبعاً، وتتميز بالخصوبة الشديدة، كون وديانها تستوعب مجاري " السيول " القادمة من الجبال في المناطق المجاورة لها في الصيف، وتتلقى كمية لابأس بها من الأمطار شتاءاً، مما خلق ثقافة زراعية ذات طابع مُسالم في الغالب لدى أفراد المكان. وكان في عدم وعورة التضاريس الطبيعية في " تهامة " سبباً لعدم وجود تحدي مُرهق لبنية الفرد هناك، بحيث يخلق تحولاً جسدي لافت فيها، تجعله يبدو أقوى وأقسى مما هو عليه من ضمور وضعف تكويني واضح!. ففي العموم اليمني، يتميز أبناء المناطق الوعرة من أبناء الجبال، ببنية قوية، وملامح قاسية، ومزاج متجهم. ويلعب ضمور الموارد الطبيعية، وضعف الميل للحرف، والفقر، وشيوع الأمية، دوراً مهماً بخلق نزوع عام للعنف، والتأكيد على الاعتباري على مزايا القوة وضرورتها في الحياة. ومما يعزز هزال " التهامي "، وضعفه التكويني بشكل عام، هو الفقر المدقع والشائع بشدة في تهامه، رغم وفرة الموارد الطبيعية، وكنتيجة لاضطهاد عام، ولسيادة علاقات عمل متخلفة، يتم حماية العسف الذي يميزها عبر نفوذ ( مشيخي إقطاعي ) شديد الوطأة والتسلط على الفرد هناك. وتتضافر الظروف والعوامل الطبيعة، في لعب ادوار إضافية تخلق جذور تمييز تجاهه، حيث يقوم المناخ الحار، وسطوع الشمس الدائم بتلويح بشرة هذا التهامي، وجعلها شديدة السمار. وهو شأن سلبي في مجتمع يتمسك بالتلقي الأولي، والتأكيد على القيمة الانطباعية التي ينتجها، أياً كانت دلالتها السطحية والمباشرة، وبغض عن موقع هذا التهامي ذو البشرة السمراء، المائلة للسواد، في التراتبية الاجتماعية التقليدية، أي من حيث كونه " قبيلي " أم لا!!؟. ففي أحد أشكال فرز الأفراد السائدة في المجتمع، يتم تمييز " القبيلي " ببشرته الفاتحة، عن  " السوداء " التي تخص المهمش " الخادم "، وهو الأقل قيمة إطلاقاً في المجتمع.
إن لون البشرة، واللهجة، والبنية، والمكان، والظرف الاقتصادي، وغيرها من التفاصيل التي تُستغل لبناء تمييز تجاه التهامي، تُشعره ضمناً بالضعف في أكثر من مستوى، ويمكن قياس حقيقة هذا الضعف في قدرته على المنافسة في سوق العمل، حيث المعيارية الشكلانية أو الموضوعية تلعب الدور الأساسي في التوظيف. فالمظهر كأحد المعايير الشكلانية للتوظيف، يتم تقييمه إيجابياً وفق الصورة النمطية التي تفضل البشرة البيضاء، والقامة الطويلة ذات البنية القوية، لا البشرة السمراء، بقامة قصيرة وبنية هزيلة. وحتى في العمل الذي لا يحتاج إلى تأهيل عالي، وغير مشروط بالصورة النمطية ( الشاقي )،  تُفضل القوة البدنيه بشكل رئيسي، باستثناء الحرفين طبعاً " الاسطى ". ويحضر مستوى التعليم كشرط تفضيلي في سوق العمل، وتعزيز حظوظ الراغب بالتوظيف، وهنا مشكلة إضافية، حيث تنخفض حصة التهامي في التعليم العام، والأكاديمي، وتشيع الأمية في تهامه، ويرتفع معدل التسرب من المدارس، ومعدل عمالة الأطفال، بسبب الفقر، ودفع الأهل لأطفالهم للعمل باكراً للمساهمة في تعزيز موارد الأسرة الضعيفة، بدل استهلاكها في الأنفاق على كلف تعليمهم. مع غياب واضح للدولة في أكثر من مستوى عن مناطقهم، وعدم قيامها بوظائفها، مثل إنشاء المدارس، وتوفير الكادر لها. حيث يبدو المتوفر من البنية المادية للتعليم هناك ضئيلاً جداً، قياساً بمساحة تهامة الكبيرة، وترامي أطرافها، وعدد السكان!!.
يُعاني التهامي إجمالاً حين يحاول إنشاء أي نوع من العلاقات المتخففة من إحساسه بالهشاشة والتمييز الضمني، خارج مناطق تواجده الكثيف  ( الحديدة مثلاً ). فاللهجة المتمايزة فعلاً عن غيرها، والسمار الشديد، وقصر القامة، ليست عناصر مُشجعة غالباً لتعزيز المبادرة العاطفية من قبل شاب تهامي تجاه فتاة من صنعاء، أو من تعز مثلاً، والعكس صحيح أيضاً!!. مع التأكيد على أن الاستثناءات لا تشكل قاعدة. وفي هذا ما يُعزز من هشاشة التقدير الشخصي للذات، سواء في مقابل نفسه، أو في مقابل الآخرين. مما يدفعه للاستلام للوصف الشائع عنه، والذي يختصره بـ المسكين، والطيب. والتكيف ضمناً مع ما يُرتبه هذا الاختصار من نتائج إيجابية وسلبية على حياته، ومصيره اليومي.
ضمن مستوى أخر، تتميز علاقة " المشائخ " بـ " الرعية " في تهامة بتعسف شديد، حيث يبدو غالباً، وبشكل واضح، وجود ميل شديد لدى الأول، للتنكيل بالثاني، وإهانته، وسحق تقديره لذاته،وأي اعتراض لديه!؟. ضمن منظومة عرف قبلية تحمي " الشيخ " عموماً، ولا تؤاخذه على إهانة " رعاياه ". بشكل مختلف عن الحاصل في مناطق أخرى في اليمن، حيث وأن كانت بعض الأعراف تسوغ "  للشيخ " التعسف، ولكنها تمنعه من التنكيل برعاياه، وتؤكد على التساوي بين الطرفين، في حصانة الذات من الإهانة، أي كانت طبيعتها، وخصوصاً في الشق الذي يمس كرامته، وعرضه، وتقديره لذاته بين الأخريين. ويعود جزء من ذلك، إلى كون الشيخ هو المالك الأساسي لأغلب الأراضي بما عليها، في الكثير من مناطق تهامة، بما يتيح له التسلط بمزاج شبه " إقطاعي " - يشبه ذلك الشائع عن اقطاعيّ أوروبا في القرون الوسطى - على الأفراد فيها. وهم في اغلبهم فقراء، ليست لديهم ملكيات عموماً، ويسكنون في أراضي الشيخ، وأما يعملون فيها، أو في حرف بسيطة لا تكفي لتكوين اعتمادية مستقلة، وأشكال اقتصادية لا تنتمي للنمط شبه " الخراجي " الشائع، والذي يمحور الإمكانية والجدوى كلها بيد الشيخ!!.  كل ذلك يعمل على تكثيف النفوذ الشخصي للشيخ في تهامه، ويعزز من قوته، وينفي في المقابل الفرد فيها، وينهكه حتى الحد الأقصى.
أميل هنا لتقدير شخصي إضافي، لتبرير التنكيل الذي يمارسه الشيخ هناك، ويتعلق بإحساس هذا الشيخ في تهامه بانخفاض قيمته في مقابل الشيخ في المناطق الشمالية، والشمالية الشرقية ( وهو النموذج النمطي للشيخ، والذي يُقاس به حصراً  لاعتبارات مختلفة ) سواء في علاقته بالدولة، أو لطبيعة التقدير الاعتباري الذي يُمكن أن يحظى به مع جهات أخرى. يُنتج هذا الإحساس بـ ( النقص ) لديه، ميل إلى التعويض النفسي، ذو التعبيرات الاضطهادية والاستبدادية، يُصادر عبرها الأفراد في دائرة نفوذه، وينكل بهم، وبحقوقهم، بغرض التأكيد الواهن للذات، على كونه نظير أولئك المشائخ في القوة، والقدرة على استعمالها، والتي هي سبب تميزهم في الاعتبار العام حسب الرأي الشائع. رغم إغفاله لنقطة أساسية، تكمن في كون المشائخ الذي يحتذيهم بهذه الطريقة بافتراضه، يؤكدون على استعمال قوتهم ونفوذهم في علاقتهم بالأخريين من خارج قبيلتهم فقط، وليس في دائرتها إطلاقاً، حيث يفعل هو!!. إنهم يعززون من رأسمالهم العام، بالإعلاء من قيمة أفراد قبيلتهم، وحفظ كرامتهم أمام الأخريين، والتأكيد على قوتهم في القبيلة، بانفاذ وطأة اعتبارية على أفرادها، لا يستخدم معها العنف تجاه احدهم إلا في النادر جداً. على عكسه هو، حيث في الأغلب تكمن كل قيمته في بطشه، وقسوته، لا في أي مزايا عامه، أو تفضيلات شخصية أخرى!!.
إجمالاً، تعمل هذه الانطباعية الشائعة التي ترادف بين " التهامي " و " المسكين "، على تجذير تمييز مُضمر تجاه، ولا يتم الوعي بضراوة ما ترتبه. وهي تفسد على التهامي قدرته ورغبته بالتساوي مع الآخرين، وتدفعه للاستسلام لهذا الانطباع، ويترتب عليها إمكانية اقل، في التحصل على ظروف وفرص أفضل مما يحصل عليه. وتعزز هذه الانطباعية أي رغبه للتعسف به، أو بحقوقه، وتهميشه، في ظل تقديرنا الأساسي بان " طيبته " و " سلبيته " لن تتيح له الاعتراض على الأغلب. وهي أيضاً، رتبت على الأغلب إهمالاً عاماً لمطالبه، واحتياجاته، وحقوقه من قبل الدولة، باعتباره فرد في المجتمع يدفع ضريبة، وذو صوت انتخابي يرتب له منافع مختلفة يُفترض بان توفر له مادامه يمنحه لها باستمرار.
نشرت في صحيفة الوسط

الأحد، 9 نوفمبر 2008

الهيلوكبتر في الواجهة، والضحايا على الهامش...

ماجد المذحجي
يعوق الفساد كل شيء: الحياة السياسية، والتنمية، والاستثمار، والأداء الإداري، وتحسين مستوى المعيشة، والخدمات العامة. وقبل كل شيء فهو يعوق الطريق أمام المساعدات لضحايا الكوارث. تجلى هذا في حضرموت، حيث كان الفساد عائقاً فعلياً أمام إغاثة الضحايا بشكل عاجل، وبدا كأنه "سيل" متأخر جرف جزء كبير من المساعدات بعد أن جرفت سيول الأمطار منازل الناس وحياتهم. بالتأكيد يبدو ذلك مستساغاً ويتم تفهمه باعتبار الدولة تفتقر بالأصل للثقة، ولرأسمال محترم بين الناس، فهي عادة مجرد جهة "جباية" بسمعة سيئة، ولا تتمتع بأي كفاءة باستثناء القدرة على حشد أفراد الأمن في مواجهة المطالب العامة.
إن الكوارث القادمة من خارج منطقة السياسة تكشف عمق الفشل في قدرة الدولة على القيام بوظائفها الأساسية، وحيث تتجلى الكفاءة فقط في محورة الحدث، أي حدث، حول الرئيس، وإنشاء أسطورة "المخلص" حوله، بينما يتضاءل الضحايا في هامش الصورة، ويقع الحدث الفعلي خارج المتن الاستعراضي. كما أن الهليكوبتر التي حصدت النسبة الأعلى في الصورة التلفزيونية وهي تقل المسؤولين ليشاهدوا الكارثة من مسافة آمنة، كثفت تماماً حجم المسافة التي تفصلهم عن الأرض، حيث تقع الكارثة بالضبط، وحيث يمكن رؤية الجثث، والبيوت المهدمة، وأناس حائرين وغاضبين تم الاستيلاء على مستقبلهم فجأة، ولم تقم الدولة بما يكفي لإشعارهم بكونها ضمانة من نوع ما في مواجهة القادم.
الاستجابة الرسمية لما حدث أصبحت كارثة بجوار الكارثة، هناك أناس تأخر إنقاذهم أكثر من أسبوعين في وادي حضرموت بعد انتهاء السيول. المسألة لا تتعلق بتقديم المساعدات الغذائية أو البطانيات أو الأدوية أو تقديم أي شكل من أشكال الإغاثة الأولية والمعتادة لهم، بل تحديداً نقلهم من الأماكن التي حوصروا فيها إلى أماكن آمنة ليبقوا على قيد الحياة! الأمر يتعلق بما هو أولي وعاجل ويفترض أن يكون مفروغاً منه، وهكذا يصبح الحد الأدنى غير متوفراً وتفشل الدولة تماماً في القيام به. نعم الفساد خصم مرعب لمستقبل اليمن في التقارير الدولية، ولكنه تجاوز ذلك بكثير ليهدد حياة المواطنين اليمنيين بشكل مباشر وعلى الأرض.
 حضرموت مختبر واسع الان لكفاءة الفساد وتمكنه وتبجحه، ولذلك لا يبدو مستغرباً تداول أخبار عن وجود قنوات مباشرة بين المطار، وأماكن وصول مواد الإغاثة الخارجية المختلفة، ومخازن المعسكرات يتسرب عبرها جزء كبير من هذه المواد بأوامر قادة عسكريين، علاوة على وجود بعض هذه المواد معروضة للبيع في أسواق حضرموت والمهرة، وهو أمر في كلا الحالتين لم يستثر أي حماسة رسمية للتحقيق فيه. ليصبح رد الفعل الأقصى في الأمر هو تحريم خطباء المساجد في صلاة الجماعة شراء مواد الإغاثة! ذلك محزن ومخجل، وهو ما يجعل الكثير من الجهات الخارجية التي قدمت المساعدات معنية بشكل إضافي بحراستها وتوزيعها بنفسها، أو عبر جهات خيرية تثق بها، خشية أن تطالها يد الفساد. وكون هذا الإجراء يهدد مصالح الأخير فقد استثيرت الغيرة الوطنية لتطالب السلطات بأن تصب مواد الإغاثة كلها، وكافة إشكال المساعدات بدون استثناء في القنوات الرسمية المركزية! طبعاً ذلك ييسر الأمر، وعلاوة على كونه يجعلها مشاعة أمام النهب، فهو يجعلها عرضة لانعدام كفاءة الأجهزة الرسمية وبيروقراطيتها وقدرتها اللامتناهية على تعطيل مصالح الناس وإهمال احتياجاتهم.
تحتاج حضرموت والمهرة، وبالطبع الحديدة، إلى تحرك عاجل، وتحرير عملية الإغاثة والمساعدات من المصالح التي ينشئها الفساد سريعاً حول هذه العملية، وهو أمر يحتاج قرار سياسي حقيقي يمنح الاهتمام لمعالجة تداعيات الكارثة على الناس خارج الكرنفالات الإعلامية التي تحول الماسآة إلى استعراض دعائي للحاكم والمسؤولين.

نشر في موقع نيوزيمن

الخميس، 16 أكتوبر 2008

السلام في صعدة لا يحتمل السلفيين


ماجد المذحجي
يخوض السلفيون معركة غير نزيهة في صعدة: إشعال الحرب مرة أخرى! هذا هو حال الأمر في المحافظة المنكوبة التي يبذل فيها هؤلاء كل جهودهم لإعادة الأمور إلى مربع العنف، بوعي تطهيري يرى في الآخرين من "الزيود" مجرد "روافض" فقط، ضمن محاولة لاستعادة وتوظيف كل التراث الإسلامي في الاقتتال المذهبي لتغذية حرب سادسة في شمال اليمن!
الحرب في صعدة تتعدى المواجهة مع "مخربين" معزولين وفق أدبيات السلطة، لتنفتح رغماً عنها على البعد المذهبي بشكل كبير، وفي مستوى رئيسي تم تحويل تداعياتها الأمنية إلى مواجهة بين الدولة و"المذهب الزيدي"، وهو ما يشكل خطورة فعلية على "الوحدة الوطنية" أكثر من أي شيء آخر. إيقاف الحرب يُمكّن من إيقاف هذا الاستنفار المذهبي بين اليمنيين، مع التأكيد على خطوات إضافية وضرورية، مثل إطلاق المعتقلين. ولكن ما يقوم به السلفيون سيؤدي إلى إشعال الحرب وبصيغة طائفية أكثر خطورة وتفجراً هذه المرة.
بالضرورة يجب تأكيد تفصيل واحد على الأقل: صعدة حاضرة "الزيدية" في اليمن منذ أكثر 1000 عام، وهي لا تحتمل مغامرات ذات بعد طائفي تريد تطهيرها من "الزيود"! إن النشاطات السلفية في صعدة تقوم باستنفار الناس وتهييجهم، خصوصاً وهي تبدو مندمجة في الإطار الرسمي، أو جزء منه. لا يمكن ادعاء وقوف الدولة بشكل محايد في الأمر، أو عدمها علمها بالموضوع، خصوصاً مع الدعم المتزايد للسيطرة السلفية على مساجد صعدة، علاوة على الحديث عن رواتب أكثر من 200 إمام، أو داعية، من السلفيين تم إيقافها بعد الحرب الأخيرة لشهر واحد فقط ضمن الخطوات غير المعلنة لإنهاء الحرب وتهدئة النفوس، ليعاد الآن دفع الرواتب مرة أخرى بقرار غير مفهوم. لقد تم توزيع منشورات في صعدة تصف الآخرين، من غير السنة بالطبع، بـ"الروافض"، وقيل أنه تم لصقها على سيارات تابعة للجيش أيضاً. وإضافة لذلك حدث أن تم اعتقال الكثير من الناس في مساجد صعدة في رمضان من قبل قوات عسكرية، كونهم يقيمون حلقات ذكر وقراءة قرآن ولا يقومون بصلاة التراويح! مع العلم بأن الزيود لا يقومون بصلاة التراويح، وهي سنة وليست فرضاً لدى المذاهب السنية، ويكتفون بقراءة القرآن. كل تلك هي ممارسات لا تنبئ عن نوايا طيبة أو بريئة، بل هي ممارسات عدائية تماماً وتوفر بيئة خصبة لعودة المعارك.
استمرار السلام في صعدة يحتاج لتنقيتها من دعاة الحرب والفتنة الطائفية. وشخص مثل "عسكر زعيل" يُتَّهَم تماماً بأنه أحد الفاعلين السلفيين فيها، والخطورة بالنسبة له هي في تداخل وعيه السلفي مع موقعه المهم كمدير لمكتب اللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة الشمالية الغربية وقائد الفرقة الأولى مدرع. لقد أدى ما قيل عن محاولة قتله، بالحادث الدموي الذي تعرض له جامع سلمان، لتفجير الحرب الخامسة في صعدة، وتبدو جهوده الحالية مفتاحاً لحرب سادسة لن يحتملها الجميع. إن استثارة النزاعات الطائفية بخطب الجمعة في جوامع صعدة بتسمية "الروافض" هو تحريض خطير ضد طائفة كبيرة من اليمنيين. إن ذلك كله يجب وقفه ليستمر السلام في صعدة. وعلى ما يبدو فإن هذا الأمر لم يكن بعيداً عن رئيس الجمهورية، الذي أصدر قرارين بنقل "عسكر زعيل" من صعدة، ولكن لم يتم تنفيذهما لأسباب لا نعلمها.
جهود السلفيين في صعدة لإعادة الحرب، لها شراكات غير بريئة في صنعاء. ذلك ما يمكن فهمه من موقف صحف محسوبة على الإصلاح تلعب دوراً تحريضياً ضد السلام في صعدة. هل يمكن ببراءة تلقي النبرة ذات الطابع الطائفي في صحيفة مثل "الأهالي" حيث يستضاف عدد من "شيوخ" جامعة الإيمان ككتاب في أعمدتها، واستثمارها اللافت للحوادث ذات الطابع المذهبي لتقوم بتحريض لا يتم فيه التفريق بسهولة بين "الزيود" و"الحوثيين". ما تقوم به "الأهالي" يتم بدون حساسية أو مسؤولية أخلاقية يفترض أن تكون حاضرة في أي موضوع يخص صعدة، بغرض الحفاظ على السلام وصون دم اليمنيين. ويبدو أن هذه الممارسة المهنية المنافية لدور الصحافة تحدث ضمن موقع أيديولوجي طائفي في المستوى الصامت منه يتخذه القائمون عليها أثناء قراءتهم للأحداث.
تحتاج صعدة للسلام، ويحتاج اليمنيون لمنح الاهتمام لقضايا أخرى غير النزاعات المذهبية. وبالتأكيد يجب على الحوثيين الالتزام بالسلام والاستجابة لأي خطوات تؤدي لتعزيزه، كما يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في نزع أي أسباب لعودة الحرب، وترشيد سلوك أجهزتها الأمنية الحاصل خارج القانون، ووقف استهداف الناس ضمن خلفيتهم المذهبية، ولجم الممارسات السلفية ذات الطابع التحريضي في صعدة.
نشرت في صحيفة النداء
http://www.alnedaa.net/index.php?action=showNews&id=2125

الأحد، 12 أكتوبر 2008

عـن نـقـيـب متخـفـف مـن واجـباتـه


* ماجد المذحجي
تبدو قضية عبدالكريم الخيواني محلاً ملائماً لاختبار النزاهة الأخلاقية والقدرة على اتخاذ موقف محترم ومسؤول، خصوصاً في بيئة سياسية و"مهنية" تم تجفيف "أخلاقياتها" وإبطال قدرتها على الممانعة، واستطاعت "السلطة" فيها سلب شخصيات "محترمة" قدرتها على التطابق بين السلوك الشخصي "اللطيف" والموقف "النزيه" على المستوى العام! إنها تناقضات تخلقها "الحاجة" ربما، وسطوة امتيازات الموقع العام التي يصعب التنازل عنها لصالح مسؤولية أخلاقية ما والالتزامات التي ترتبها النزاهة على المرء.
تجاوز هذا الالتزام يصبح مفزعاً أكثر ضمن مستوى التضامن الذي يقتضيه العمل في مهنة واحدة على الأفراد. ربما يبدو ذلك وصفاً أخلاقياً متزمتاً، ولكن يصعب تجاوزه في التعاطي مع قضية الخيواني التي أصبحت معياراً على قدرة الكثيرين على إدراك أنفسهم قبل الإصابة بفقر في "الموقف". واعتقد أن التأكيد على هكذا صرامة في الموقف، يجب التشدد فيه بعد المآل السيء الذي يذهب إليه موقع "نقيب الصحفيين"، والذي تقود إليه اعتبارات "السلطة" ومخاوفها، لا تلك التي تفرضها المسؤولية والواجبات النقابية عليه، كما يفترض أن يكون الأمر، أو على اقل شأن كما تفترضها الالتزامات الأخلاقية الشخصية.
ذهب نقيب الصحفيين "نصر طه"، في تصريحاته مؤخراً بشأن زيارة "جيم بوملحة" رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين، مذهب الفزع من تداول خبر الزيارة، فليس الأمر حرصاً على دقة الصحف في إيراد الأخبار كما أفصح في تصريحاته الأخيرة، بل يبدو ان الأولوية والحصافة بالنسبة له هي في كتمان الأمر قدر الاستطاعة، وعدم إزعاج السلطة بهكذا خبر عن زيارة كانت ستجبره، لوحدثت، إلى دفع كلفة عالية، بسبب اضطراره حينها إلى التضامن العلني مع الخيواني! وهكذا لم يتردد "النقيب" في اتخذ موقع تبريري ضمني عن السلطة فيما يتعلق برفضها الزيارة، لينقل ويؤكد برضا واطمئنان "تفهم" بوملحة لموقفها! ليعفي السلطة بذلك من الحرج ومواجهة تداعيات قرارها، وليبدو الأمر مجرد تفاهم لائق بين النقابة والاتحاد الدولي، معفياً نفسه تماماً على المستوى الشخصي والنقابي، من اتخاذ موقف من هذا القرار "الأمني" المعيب، فلم يذيل الأمر بأي تعليق كنقيب للصحفيين ضداً عليه، بل منح الأولوية في تصريحه لتقريع الصحف التي أذاعت أمر الزيارة تضامناً مع الخيواني، وشوشت بذلك على ولي الأمر، متخلياً عن مسؤولياته كلها تجاه الوسط الذي يمثله، وتجاه صحفي، وربما صديق، نكل به كما يعلم تماماً.
إنه موقف ليس بطارئ على "نصر"، بل يمتد من موقف متحفظ من قضية الخيواني ميز باستمرار علاقته بهذه القضية، فلا يدلي بتصريح إلا نادراً وتحت ضغط الاضطرار أو الحرج على الأكثر، متخففاً من فكرة التضامن حتى الحد الأقصى، ولذلك لم يشعر أبداً أن موقعه، كنقيب الصحفيين، يفترض به العمل على مناصرة الخيواني بكل الوسائل الممكنة. وتبعاً لهكذا "خفة" غير لائقة بواجبات "النقيب" لم يتواجد "نصر" نهائياً في أي اعتصام أو فعالية تضامنية مع الخيواني، وتجنب تماماً حضور أي جلسة محاكمة لأشهر صحفي يمني يحاكم ويتعرض لانتهاكات واسعة وخطيرة بسبب ممارسته المهنية وتمسكه بحقوقه. فضلاً بالطبع على زيارته في السجن، وهي الخطوة التي لم يبادر إلى القيام بها حتى الآن أيضاً، ولا يبدو أن هناك شيء يُلح عليه للقيام بها كخطوة رمزية يقوم بها المسؤول النقابي الأول تجاه عضو نقابي يفترض به الدفاع عنه وتمثيل مصالحه!
يحتمي "نصر" بسلوك شخصي مهذب، وكياسة لطيفه، وقدرة على مبادلة الأخريين الود، ذلك كما يفترض هو كافي تماماً، ويجب على الأخريين عدم اضطراره إلى اتخاذ موقف "مزعج" للسلطة في إطار مسؤولياته النقابية، لان الارجحية في علاقته بالأخيرة هي ليست لموقعه النقابي والتزامات التضامن المهني، بل لموقعه الوظيفي والتزاماته تجاه "رؤوساه" تحديداً، باعتباره رئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" الرسمية. إنه يخضع تماماً في هذا الشأن لمزاج و"مخاوف" الموظف، في ظل تراتبية إدارية وسياسية تجعله ضمن قرار السلطة قسراً، وفي موقعه هذا "امتيازات" ليس من السهولة التضحية بها، و"أملاءات" ليس من السهولة رفضها أو مواجهتها، بسبب التزامات أو مواقف "نزيهة" يفترضها العمل النقابي وتمثيل مصالح المهنة ومنتسبيها، أو لصالح مسؤولية أخلاقية تجاه زميل وصديق يتم التنكيل به علانيةً بأقذر الطرق وأكثرها افتقاراً للأخلاق كما يعلم تماماً.
يقود سلوك "النقيب" إلى إضعاف "النقابة" ونزع الثقة منها، باعتبارها محل للتضامن المهني والأخلاقي بين الصحفيين، ويجردها بذلك من أسباب القوة التي ميزتها دوماً في مواجهة التعسف الذي يطال منتسبيها. إنه يضعها في مواجهة واجباتها الأساسية المفترضة، وعلى النقيض من رأسمال محترم لها باعتبارها كانت على الدوام في الواجهة ضداً على أي ممارسات سياسية وأمنية تعسفية تنال من الحقوق والحريات العامة على المستوى الوطني.
....................
* نشر في موقع الاشتراكي نت ، بتاريخ 21 أكتوبر 2008

السبت، 11 أكتوبر 2008

نساء يختبرن الالتزام "الأخلاقي" لليمنيين تجاه الضحايا


ماجد المذحجي
لايدافع الناس عادة عن حقوقهم في اليمن، بمواجهة العنف والتعسف الذي يطاولهم من قبل السلطة أو أي جهة كانت. لقد أبطلت عقود من الترويع الأمني والعنف الاجتماعي المتبادل بين المجموعات الأهلية، شمالاً وجنوباً، قدرة الناس على المقاومة و"المطالبة"، وتحولوا إلى كائنات مذعورة تماماً. أُفسدت قيمة التضامن بين الأفراد بممارسات أمنية تفتقر للأخلاق واستهدفت القيم والبشر، ولم تكتفي بالنيل من الفرد لوحدة بل تقوم بالتنكيل بأسرته أيضاً لو قامت فقط بالسؤال عن مصير ابنها أو أبدت أي قدر من التضامن العلني معه! ذلك يدمر أخلاقية التعاطف في المجتمع ويجرده من الإمكانية على حماية "الضعيف" و"المنتهك" والقدرة على إبداء أي شكل من التضامن مع ضحايا "العنف" و"الاستقواء".
هذا المصير اليمني السيء لقيمة التضامن والقدرة على مقاومة "المظالم" يتم "عكسه" مؤخراً عبر أداء فريد واستثنائي تقوم به اسر معتقلي حرب صعدة. إن تجربة هذه الأسر المتواصلة حتى الان في المطالبة بالكشف عن مصير أبنائها وإطلاق سراحهم والدفاع عن حقوقهم تشكل نموذجاً استثنائياً يضع المجتمع في مواجهة صمته ومخاوفه والتزاماته الأخلاقية الضعيفة، وهو نشاط دؤوب يتغذى على قوة "الحق" الأخلاقية وينال من الصمت "اللاخلاقي" الذي يفرضه السياسيين و"الأمنيين" على مصير الضحايا.
تقوم هذه الأسر منذ بدء الاعتقالات "غير القانونية" بالتحرك اليومي من اجل أبنائها، ولم يستثنوا جهة رسمية من الزيارة والاعتصام أمامها بدءاً من النائب العام ورئاسة الوزراء، ومروراً بوزارة الداخلية والأمن السياسي والقومي ولجنة أعمار حرب صعدة وجامع "الصالح"، وحتى دار الرئاسة التي نفذوا أمامها فقط إحدى عشر اعتصاماً متتابعاً لطرح مطالبهم على الرئيس، ولم تتجاوز استجابة "الحراسة" استجابة أي مذعور، حيث تقوم بتهديدهن بالاعتقال وترويعهن بكلاب الحراسة "الرئاسية" كما حدث في أواخر شهر رمضان!
لقد قابلن علي صالح الأحمر، ومطهر المصري، ورشاد العليمي، وعبدالقادر هلال، وعبدالله العلفي، واحمد درهم وكل ذو علاقة بهذا الملف، ولديهن وعود وتوجيهات من الجميع، ومن رئيس الجمهورية، بالإفراج عن مالم تثبت تهمه عليه من المعتقلين. وبالطبع لم يحدث ذلك الإفراج لأي معتقل (لم يطلق سوى عن بعض المقاتلين في صعدة أما المعتقلين المدنين في صنعاء وحجة والمناطق الأخرى فلم يحدث أن أطلقوا)، ولم يحول احد منهم للنيابة والقضاء لتقرير التهمه من عدمها، رغم أن مدد الاعتقال تجاوزت في بعضها العامين ولم تكن كافية لإثبات تهمه أو نفيها بالنسبة للمسؤولين الأمنيين والسياسيين، مع التأكيد على كون الكثير من هؤلاء المعتقلين تعرضوا لجرائم الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب، وبعضهم من القصر، وتم اعتقالهم ضمن سياسية أمنية تميزية "عنصرية" بسبب انتمائهم المذهبي للزيديه، وكل ماتعرضوا له مجرم دستوراً وقانوناً، ويمكن تصنيفه في حال تحوله لسياسة وممارسة رسمية شائعة ضد فئة معينة، وهو أصبح كذلك بالفعل، لجرائم ضد الإنسانية يطالها القضاء الدولي حين يعجز عن التصدي لها القضاء الوطني لها كما حاصل بالفعل هنا.

إن القانون والأحزاب والمجتمع بأكمله شهود صامتين على مأساة المعتقلين المستمرة، والجهاز الأمني خصم مباشر للمئات من العائلات اليمنية التي اعتقل أبنائها على ذمة حرب عبثية أوجدت بيئة خصبة للانتهاكات والممارسات العنصرية، ولن تتوقف تداعيات هذه الاعتقالات على استمرارية مأساة المعتقلين وأسرهم، بل ستتسع تماماً وستوفر أسباباً كثيرة للاستنفار الاجتماعي والمذهبي في مواجهة الدولة، وستعمل على تغذية أسباب لحرب أخرى في صعدة، ستكون أكثر عنفاً ودموية لو عادت لمرة سادسة، علاوة على ما ستحدثه من انقسامات أعمق في مجتمع أصبحت مكوناته متوترة فعلياً تجاه بعضها.
لقد كان صباح عيد الفطر الموعد الأخير، حتى الأن، لاعتصام هؤلاء النساء الفريدات أمام جامع الصالح حيث كان الرئيس، وكافة رؤوس دولته، يحضرون خطبة وصلاة العيد. أكثر من سبعين امرأة وقفن بشجاعة رافعات مطالبهن على ورق مقوى ومعتمدات على حق لا ينكر وإحساس بالظلم لن تكفي الصلاة في هذا الجامع "الصالح" لإنقاذ أي "ظالم" من مغبة ظلمه لهن. إنها بالتأكيد ليست خطوة أخيرة، تفضح عنف ارعن، يقمن بها حتى يتحقق لهن ما يردن. ستستمر هؤلاء النساء بالحركة في مواجهة التخاذل وخجل ثقيل يرزح تحت وطئه الجميع حين لايقومون بأي شيء لمناصرتهن ودعمهن، وسيصبح المقياس الوحيد على التزام اليمنيين الأخلاقي بقيمة التضامن وقدرتهم الفعلية على الانتصار للضحية والمستضعف مرهوناً بتحرك الجميع الجاد من اجل قضية عادلة تماماً: إطلاق سراح المعتقلين.
نشر في موقع نيوزيمن