الاثنين، 22 فبراير 2010

عن مُشردي الحرب ومعتقليها


*ماجد المذحجي
يرتب إنهاء الصراع المسلح عادة إحساساً بالاسترخاء والاطمئنان، كون استمرارها مرتبطاً بكلفة دموية مباشرة تثير التوتر وتجعل الجميع على تماس مع مناخ عام مُستنفر باستمرار، وهو شأن على أهميته يثير القلق في مستوى آخر: أن يرتب ذلك الاسترخاء تجاهلاً للكلف الإنسانية التي رتبها هذا الصراع وغض طرفاً عن التزاماتها الملحة.
ينسحب ذلك على الحرب السادسة في صعدة، حيث يُخشى من استغراق الجميع في "الأولويات" السياسية والميدانية لإنهاء الصراع المسلح، على أهميتها وضرورتها، على حساب "الأولويات" الإنسانية الهامة التي ترتبت عليه، والتي تبقى مفتوحة، ومؤلمة، بمعزل عن قرار إيقاف الحرب واستمرار العمليات العسكرية من عدمه.
على مدى 6 جوالات من الصراع المسلح في صعدة وحرف سفيان وأماكن أخرى، كانت الضريبة الإنسانية المباشرة هي أكثر من 250 ألف نازح، لم يتم إحصاء النازحين غير المرئيين الذين لم تستوعبهم المخيمات، وهو شأن إذا تم سيضاعف الرقم على أقل تقدير. وإضافة للالتزامات المباشرة الخاصة بهم من مأكل ومشرب وإيواء مؤقت واحتياجات صحية، يجب البدء بالتفكير، والعمل بالضرورة، في الاحتياجات البعيدة المدى الخاصة بهم: تعويضهم عن الخراب الذي لحق بمساكنهم ومزارعهم، وإعادة بناء شروط حياة جديدة ملائمة وكريمة تضررت بشدة بسبب الحرب. باعتبار أن غض الطرف عن ذلك سيفجر مشكلة خطيرة بالمعنى الإنساني والاجتماعي على المدى الطويل في اليمن.
لا يتعلق الأمر بالترف، أو بكون الأمر "فرغة" منظمات دولية أفصحت بشكل متكرر عن قلقها من الوضع الإنساني، وهي إن أبدت ترحيبها بوقف إطلاق النار أكدت بلهجة واضحة على مخاوفها من خطورة الظروف في المناطق المتأثرة بالحرب.
لقد أفصح الصليب الأحمر الدولي عن كون الكثير من المشردين بسبب المعارك يعتمدون كليا على المساعدات التي يقدمها، وأشار إلى كون تقديم المساعدات تعدى النازحين ليتم تقديمها أيضاً للكثير من السكان الذين يستضيفونهم، كل ذلك في ظل احتياجات ملحة تزداد كل يوم وتحتاج عملاً حقيقياً.
في مستوى آخر، يجب التعامل السريع مع ضريبة إنسانية أخرى لنزاع صعدة، هي المعتقلون. إن العمل على إغلاق هذا الملف الإنساني من طرف السلطات الحكومية، يشكل ضرورة ملحة لأكثر من سبب. أولاً لكون الأمر يشكل "فضيحة" بالمعنى الحقوقي، حيث تم إخفاء واعتقال المئات من طرف الأجهزة الأمنية بشكل غير قانوني، لفترات طويلة جداً، وهو ما يشكل جريمة تستوجب المساءلة والعقاب، لأسباب تتعلق بالانتماء المذهبي والعرقي، واشتباه ضعيف، وجماعي! بالتعاطف مع جماعة الحوثي. وثانياً للمساهمة في إضعاف جذور تعبئة اجتماعية مُعادية للدولة تتغذى على الخروق والانتهاكات الأمنية لحقوق الإنسان على ذمة الحرب. وهي انتهاكات تؤدي إلى الانتقاص من شرعية الدولة أمام مواطنيها وتفكك ولاءهم لها، خصوصاً حين يكون الإجراء الرسمي، الأمني الطابع، قائماً على أسس تمييزية بين أفراد المجتمع، يُشعر الناس بعدم العدالة بشكل مستمر، مما ينال من حياتهم وأمانهم، وتصبح الدولة تبعاً له خصماً فاجراً لا حكماً شريفاً.
..................................................................
نشرت في صحيفة النداء http://www.alnedaa.net/index.php?action=showNews&id=3235

السبت، 13 فبراير 2010

الثرثرة كمبرر لكوني رجل مهجور


ماجد المذحجي
أنا رجل مهجور......
دوماً ما يتبادر هذا التعبير إلى ذهني حين أفكر بما أنا عليه. لست عظيماً وإن كنت أظن أن لدي من الأفكار ماهو أكثر أهميه من ذلك الذي يردده العديد من الأغبياء في الكتب أو في الشاشات.
نعم أنا رجل مهجور ولا عزاء لي في ذلك.
و(مهجور) مفرده تشير بسلاسة لعدد من الأوضاع, آخر ما يمكن توقعه من إحداها أنها قد تخص إنساناً، فأول ما يتبادر للذهن مثلاً هو بيت مهجور.. أو منطقه مهجورة. ولكن من الصعب أن يتم الجمع بينها وبين كائن حي يختلط بالبشر على الأقل بسبب الاحتياجات الضرورية كالتسوق من اجل الطعام والملابس والأحذية ناهيك عن دخول الانترنت أو شراء بطاقات لإعادة تعبئة رصيد الموبايل.
هناك وضع وحيد يمكن أن يترافق مع صفة مهجور. حين يقولون مثلاً: رجل هجرته امرأته وكذلك بالعكس. إنهم يقولون مهجور ليدللون على كمية الوحشة باعتبارها الصفة الوحيدة التي توضح ما يعانيه الطرف الذي هُجر سواء كان رجلا أو امرأة. وأنا هنا أعاني من الصفة ولا أعاني من السبب الذي أوردته في الأعلى!
هذا يعني أن كلمة مهجور هي كلمة لا تناسبني ضمن المنطق اللغوي الأولي.. ولكنني على الرغم من ذلك أصر أنني رجل مهجور.
كيف يمكن لي أن أفسر أنني كذلك:
يمكن أن ابدأ من التفاصيل الأساسية التي أدت إلى كوني شخصا مهجورا، فانا مهجور لأنني أتحدث بشكل جيد أو أثرثر كما يصفون تحدثي!!..
نعم أنا أثرثر... ليس من الخطأ بالنسبة لي أن أكون متحدثا جيدا أو ثرثارا.. لكن الآخرين يهجرونني لأنني كذلك!!؟.وكم يبدو غبياً ومؤلماً بالنسبة لي أن يُهجر أي إنسان لأنه يستمتع بالحديث لوقت أطول من الآخرين!!.
أنا استطيع الحديث جيداً، ولدي الكثير مما يمكن الحديث عنه. لا أحب أن احتفظ بما لدي كأنه شيء سري. إن ما امتلكه من أفكار وانفعالات هي من حق الأخريين كذلك، ويسعدني أن أساعدهم على التعرف عليها. هم يسمون ذلك ثرثرة وأنا اسميه بالضبط ( عدم الخوف من نقل الأفكار والانفعالات عبر حديث مُدار بشكل جيد وممتد ).
أعلم أنه يبدو كأنه تعريف لأحد فروع علم الاجتماع. ولكنها الصيغة الوحيدة التي تستطيع تعريف ما يطلقون عليه ثرثرتي.
تصوروا أن يصبح الشخص مهجوراً فقط لأنه لا يخاف من نقل أفكاره وانفعالاته عبر حديث مُدار بشكل جيد وممتد!!.
لا ادري لماذا لا يجربون الإنصات بشكل جيد.. يجب أن يتمرنوا على الإنصات. لو تمرن البشر على الإنصات لكان قد تم حل نصف مشاكل الكره الأرضية!!.
كم أتمنى أن يُنصت لي أحد ما ثم لا يهجرني.. أتذكر أنني واعدت امرأة إلى العشاء في منزلي بعد محاولات متكررة معها كدت أيئس بعدها. قمت يومها بتنظيف المنزل وتنظيمه بشكل جيد. رتبت أشجار الزينة ومسحت أوراقها.. ومنحت الأسماك في الحوض كميه أكبر من الطعام كي تكون أنشط مما هي عليه بالعادة، جلبت وروداً ووضعتها على الطاولة.. قمت بمسح جهاز الكومبيوتر وأعددت الاسطوانات التي سنستمع لها ونحن نتحدث خلال تناول الطعام. قمت بإعداد السلطة، و ( الحمص )، و( بابا غنوج )، وقلي البطاطس، وأعددت وجبتي المفضلة والمكونة من جوانح الدجاج المشوية والمتبلة بالثوم والليمون. جلبت أيضاً قنينة نبيذ فاخره من ماركة ( زيزانو ). حلقت ذقني واستحممت وارتديت ملابس خفيفة لكن أنيقة. حرصت على عدم ارتداء أي شيء رسمي كي لا يخلق هذا مناخا ضاغطا. فانا أؤمن تماماً أن نوعية الملابس التي يرتديها شخص في أول موعد مهمة للغاية، فبناءاً عليها تتحدد كثافة الهواء بين الشخصين وكلما كانت الملابس أكثر راحة كلما ساعدت على حصول تماس دافئ.
المهم، بعد أن انتهيت من كل ذلك أتت تلك المرأة.. قمت باستقبالها بابتسامه عريضة وداعبتها قائلاً: كنت أخشى أن تفري لأنني سأحزن على كمية النقود التي أنفقتها على إعداد هذه السهرة.
أعلم.....
كانت دعابة سمجة!!.
قدتها إلى الداخل وبعد الكثير من الإشادة المتوقعة منها بأناقة البيت استراحت على الأريكة وقعدت بجوارها. وبدأت أتحدث.
بالأصح بدأت أثرثر.....
لم أتوقف إلا حين دعوتها إلى الطاولة كي نتناول الطعام و النبيذ. لا أتذكر سوى أنها كانت تهز رأسها كل حين وحين. لم أتوقف عن الحديث، شعرت أن لدي الكثير من الأشياء التي يجب أن اخبرها بها. كل شيء، من رأيي في السياسة وآخر مباريات كرة القدم وحتى الروايات ومشاكل التغطية لشركة الموبايل في منطقة سكني!!.
في الأخير وأنا أودعها على الباب اكتشفت أنني لم المسها حتى.. لقد استغرقت تماماً في أحاديثي.. انفصلت تماماً عنها لصالح هذه الأحاديث. لم تكن بأكثر من محرض ومن ثم تلاشت أو اختصرت إلى مجموعه من الإشارات الحسية التي تساعدني على الانتقال من موضوع إلى موضوع. كنت إذا شعرت بأنها أصيبت بالضجر أنتقل إلى موضوع أخر وإذا شاهدت اهتماماً في عينيها أعمل على الاسترسال في الموضوع الذي أتحدث به. أن تعابير وجهي وجسدي تصير أكثر غنى من المعتاد. كل تفاصيلي تصبح مركزه في وظيفة واحده: معاضدة فعل الكلام فقط!!.
لكن النتيجة في الأخير أنني عدت شخصا مهجورا ولم تعد هي لزيارتي أبداً أو حتى ترد على هاتفي ورسائلي المتكررة!.
لم أكن خفيفاً على الآخرين أبداًً في أي لقاء، هكذا أكتشف حين أتأمل لوحدي في الأسباب التي تدفعهم لتجنبي. وهذه واحدة من أهم الأسباب التي جعلتني شخصا مهجورا. ربما أجيد الحديث وهذا يلفت نظر القليل من البشر لكنه بالتأكيد يثير غيظ العدد الأكبر منهم أيضاً. ليست المسألة فقط بأنني أثرثر كثيراً ولكنها تتعلق من زاوية أخرى بالغيرة، أنا امنعهم بشكل ما من إبراز ذواتهم. ويبدو لهم أنني أؤكد ذاتي بشكل يمنع ذواتهم من البروز تماماً. يأخذ تعبير الغيرة حده الأقصى مني في وجود أنثى، إنني أستأثر بالاهتمام بشكل ما. وهو الأمر الذي يدفع كل شخص إلى التمسك بأنثاه أكثر كأنني سأسرقها منه. إنهم يبدؤون بالهمس لهن وإمساك أكفهن باعتناء أكثر من المعتاد كي يؤكدوا وجودهم بقربهن. ويقابلون حديثي إما بالإعراض أو بالحدة المضمرة في الرد أو النظرات. ويراقبون أي إمكانية للإعجاب قد تنشأ بيني وبين فتياتهم بالكثير من الحذر والاحتراس والغضب!!.
حدث ذات مره ما يتعلق بهذا الحديث عن الغيرة، كنا مجموعة خرجت للتو من المسرح، كان مؤلف المسرحية التي عرضت أحد معارفي، والآخرين هم طاقم الممثلين والإضاءة والموسيقى والديكور بالإضافة إلى المخرج وصديقته، كان هناك عدد من النساء بينهم، وكما عرفت في تلك الليلة فإن كل واحدة منهن لها علاقة بأحد أفراد المسرحية!.كنت الوحيد الذي لا تربطه علاقة بأية واحدة من هؤلاء النسوة. ذهبنا لتناول بعض الأقداح في أحد المطاعم ولتناول عشاء خفيف. كنت مدعواً بسبب معرفتي بالمؤلف. أي أنني كنت طارئاً في المشهد المنسجم والمنضبط الذي لا يمكن توقع أي مفاجآت فيه. لم أكن أشكل قلقاً مهماً للكل في البدء باستثناء مسألة اضطرارهم لمجاملتي وعدم الدخول في مناطق شخصية كثيراً بسبب عدم معرفتهم بي. استفزني الأمر قليلاً، فقد كنت خارج إطارهم إلا بما تستدعيه المجاملة فقمت بتقديم ملاحظات نقدية جادة حول العرض المسرحي الذي قاموا به حين طلبوا مني أبدي رأي فيه. لم أجامل كما يفترض بشخص مدعو ويحظى بامتياز التواجد معهم كما يتصورون. بل كنت صريحاً واستخدمت مواهبي في الحديث ومعارفي المتنوعة. استأثرت بانتباههم، وبالأخص بانتباه صديقاتهم وهو الأمر الذي لفت نظرهم. قدمت آراء متنوعة في كل شيء، بدءاً بالنص وانتهاء بطريقة الإخراج وبشكل مؤثر. كان واضحاً أن النساء هن من اهتممن أكثر، ولقد اهتموا كثيراً نتيجة ذلك – وهو الأمر الذي لم يكن ليحدث لو كان الحضور ذكوراً فقط. بدؤوا بالرد عليّ بصوت هادئ ولكن بحدة مبطنة، كأنهم يريدون أن يوصلوا لي الرسالة التالية: لا تعتقد أنه من السهل أن تسلبهن منا بحديثك الجميل وجراءتك في نقد المسرحية، احذر فنحن منتبهون لك وسننهشك بسهولة!!. انتهت تلك السهرة بأنني حصدت عداء أغلب الشباب وإعجاب ضمني خفي من النساء بسبب براعتي في الحديث رغم أنني لم أسترسل كعادتي لأن الباقين كانوا مستنفرين تماماً وقادرين على مقاطعتي وإبداء آراءهم لأدنى خطأ يتمكنون من التقاطه من حديثي!.

أنا شخص مهجور، وهذه صفه بدأت تعززها عدد من المظاهر الجسدية، فقد بدأت أصاب ( بالتكرش ) المنفر الذي كنت أبرره بسخرية - للقليل من المعارف اللازمين لضرورات الحياة - بدواعي الوجاهة. لقد بدأ جسدي يفقد امتيازات الشباب رغم أنني لم أدخل في مرحلة الكهولة، فقد أصبح لدي جسد مترهل بسبب عدم ممارسة الرياضة وانعدام الحركة الناجمة من قلة الرفقة، وفاقم ( الكرش ) من غباء جسدي، فلم يعد مصلوباً ومستقيماً حيث يقوم هذا ( الكرش ) بجعله أقل استقامة ويفرض حجمه وبروزه شكلاً من اللاتناسق والانحناء يشوهان منظره بشكل كلي، ويدفعان لتصور أولي لدى الناظر فحواه بلادتي وقلة حركتي!.
هذا الشكل يلعب دوراً معقولاً نسبياً في جعلي شخصاً مهجوراً، فانا لا امتلك تعويضاً جمالياً بسيطاً يمكن أن أستغله في معادلة الأثر الذي تخلفه مسائل الثرثرة والغيرة. أي أن جسدا جيدا وملامح جميله كان يمكن لها أن تشكل توازناً صحياً أستطيع بالاستفادة منها تعويض خسارتي للبشر الذين يظنون أنني شخص ثرثار بالبشر الذين يظنون أنني شخص جميل!!.
أعلم أنني لست شخصا قبيحا، وأنني شخص وسيم ضمن المتوسط العام، ولكن هذه التطورات الرديئة التي أصابت جسدي عدلت تماماً من امتياز الوسامة لصالح غباء الجسد، وهو الأمر الذي يجعلني أخسر نقطه إضافية في محاولتي لتعديل موقعي من شخص مهجور لشخص اجتماعي.

مازلت في العشرينات من عمري وأصبحت شخصا مهجورا بشكل سيء. لا ادري إن كنت أستخدم هذا التعبير بإفراط أو أن المسألة تتعلق بحساسيتي العالية. لقد كنت على الدوام شخصاً عالي الحساسية رغم أنه غير معروف عني هذه الحساسية!. لقد كنت دوماً أستبطن بألم سخرية الآخرين مني رغم إبدائي سعة الصدر في الظاهر. كانت تزعجني بعمق رغم أنني أتلقاها بابتسامه ورد سريع تساندني فيها مواهبي في الحديث، ولهذا أعتقد أنني الآن أتعامل بحساسية عالية مردها كثرة التململ من حديثي الذي مازلت مقتنعاً حتى الآن أنه حديث جيد رغم انه طويل قليلاً!!.
حاولت لفترات طويلة من حياتي موازنة الأمر، فكنت أحاول أن أنتبه متى بدأت بالاسترسال بالحديث لكي أنهيه بسرعة بحيث أمنح الآخرين مساحة وقت يجدون عبرها حيزاً بجواري، كانت المسألة صعبة ولكنني كنت أنجح كثيراً، لكنني أخيراً بدأت أتململ من ذلك. كان غباء الآخرين وأحاديثهم السيئة وأفكارهم القديمة تدفعني للاستمرار بالحديث، فلاشيء لديهم يدفعني لمحاولة الإنصات لهم. أما هم فالمسالة تتعلق فقط بأنهم يخشون أن أسلبهم مساحة يعتقدون أنها تخصهم في أي مكان نتواجد فيه. المسألة كما أعتقد لا تخص إنكارهم لأهمية ما أقول بل تتعلق تماماً بإنكارهم لسلبي ما يعتقدون أنها مساحه تخص ذواتهم!!. إن المسألة تتعلق إذاً بتنافس بين نرجسيتي ونرجسيتهم.. بين من هو الأكثر أهميه ضمن التقدير الشخصي للذات بالنسبة لكل شخص!.

يحدث أيضاً تناقض مربك دوماً في حياتي، فانا أتعرف على البشر لأنني أجيد الحديث وأخرج من حياتهم لنفس السبب!!. في البداية لديهم الرغبة في الاستماع لرجل يجيد الحديث وحين أقوم بتهديد مساحتهم الشخصية - أمام الآخرين أو أمام أنفسهم - في ظروف عدة يتحول موقعهم مني إلى العكس تماماً، وتصبح لديهم رغبة وحيدة تخصني: الصمت. إنها ذوات تتصادم مع بعضها كما تتصادم كرة بأخرى فتذهب كل واحده منها إلى الاتجاه الآخر تماماً.
الكثير من الأصدقاء في حياتي هجروني لأني شخص أثرثر، كنت دوماً أرتبك أمام إعجابهم وأمام غضبهم، الأولى تثير ارتباكي وفرحي والثانية تثير حيرتي وضيقي!. لم أستطع ضبط مسافة موحدة من الجميع فيما يتعلق بالأثر الذي أخلفه لديهم. فهو يختلف بناءاً على توقعات كل شخص من علاقته معي ولا يتعلق الأمر كما أظن بما أفترضه أنا من هذه العلاقة. ما يثير انزعاجي أن هناك الكثير ممن كنت أحب أن أستمر بعلاقة دافئة معهم بادروا لاتخاذ موقف عدائي مني بسبب ثرثرتي. لم يكونوا أبداً مهتمين بأهميتها أو عدم أهميتها، وإنما مهتمين بتقديرهم للغرض الذي أبتغيه منها. كانوا مهتمين على الدوام بسبب أحاديثي وليس بفحواها!. الأمر يتعلق بالنوعين من الأصدقاء، أولئك الذين أحبوني والآخرين الذين تركوني أو اتخذوا مسافة مني. الكل كانت يفتش عن موقع في حديثي يمكن الاستفادة منه. إنهم يعززون مواقعهم داخلياً اعتماداً على أسباب أحاديثي كما يقدرونها. لم تكن ثرثرتي تهمهم إلا بقدر ما هي مناسبة لعضد فكرة أو موقف نفسي يناسبهم. وهكذا كنت أخسر أكثر مما أكسب. حتى حبيبتي خسرتها بسبب ثرثرتي. لقد كانت تتضايق دوماً بسبب أنني لا أتحدث معها بما يكفي!!. لأنني أولي الآخرين اهتماماً في أحاديثي أكثر مما أوليها!!. كانت لديها رغبة ضمنية بالاستئثار بالكمية الأكبر من حديثي. كنت أبرر الأمر دائماً بأنها خارج الحديث وفرقعته، بأنها تسكن جوهره الذي لا يُقال!. لكنها أبداً لم تقتنع. لم يقنعها هذا التجريد.. كانت تريد إقراراً أكثر حسية. كنت دوماً أقول لها أن غيابها عن حديثي يعني غيابها عن الشك. فالتحدث هو عمليه شك مستمرة.. نقل الحوادث اليومية إلى موضوعات مُفكر بها وقابلة للاهتزاز والتعرض للتفكيك والمُساءلة. لكنها لم تكن تقتنع أبداً.. كانت ترى في الحديث موقع صدارة.. تسليط ضوء مستمر على جوهر ما.. ترويج قيمة ونقلها من الخفاء إلى العلن. ولم يكن هذا يناسبها فتركتني ببساطة. كان يهمها حديثي وليس أنا.. ولهذا تركتني دون أن تفكر حتى بأن تخبرني بأنها تركتني!. لقد هجرتني ببساطة متناهية!!!.

أنا مهجور بشكل حقيقي. بشكل مفزع. إنني أتحول إلى خرابة حقيقية ولا تعشش فيها سوى أصوات قديمة تُشعرني بالقليل من العزاء ولكنها لا تكفي لمنحي أي إحساس آخر. إنني مهجور تماماً كأي قطعة تم استنفاذها.. كبيت مسكون بالأشباح.. كحكاية تم ترديدها بشكل ممل حتى أصبح الكل يقرف منها. أنا مهجور وبائس كحذاء قديم.. كحزن لم يعد يريد أي شخص الاقتراب منه. أنا مهجور وموحش وأفتقد الآخرين تماماً!!........

دمشق
يونيو/ 2005