الثلاثاء، 2 مايو 2006

الاحتفاء بالمكان الخطأ


* ماجد المذحجي
يُتيح الاحتفاء بالمكان امكانية التشويش على عملية تفحصه والتمعن في علاقاته ومجموع ما يتكون منه من عناصر ثقافية وماديه تشكل في كليتها سماته العيانيه المُشاهده والمفروزه في واجهة التلقي المباشر، فالاحتفاء صيغه مُقابله بكثافه للضجيج، وتُمعن في تعليق الرؤية عند حدود السطحي بكل مايلقيه عليها من ثقل يعطل نفاذها إلى المستور بكل ماهو عليه، الثقل الذي يعطل على الرؤية امكانية أن تتحسس ما لايُراد أن ينقل عن المكان، ويُمكن الاحتفاء من انتقاء مايُحبب ان يُضاء ويُشاهد.
الاحتفاء بصنعاء كعاصمه للشعر الجديد كان ضجيجاً عطل امكانية تفحص المتاح في صنعاء كمكان يستوعب هذه الصيغه الملحق بها، وتفحص موقع الشعر الجديد ذاته من فكرة اقامة عاصمة له!!. المربك أولاً في شان كهذا انه يجب عليك التخلص من عبء السعاده كفرد من المكان ذاته، وتبني منطق وزاوية نظر متخففان بشده منها، فضمناً يسترخي الفرد اليمني - وهذا ينطبق عليّ بواقع الحال - لكون صنعاء صارت عاصمه ذات حضور اقليمي حتى ولو عاصمة " للشعر الجديد!! " كجزء من عملية تأكيد ذات مسحوقه توفر لها هذه العنونه العريضه انتصاراً يرفع من اعتزازها في مقابل الاخر في العواصم العربية الاخرى.
تُضمر صنعاء المحتفى بها خلف الواجهة المعماريه الجماليه المتميزه المروج لها جيداً مجموعة انساق ثقافية واجتماعيه معادية بشده لمجموعة القيم شديدة الحداثة التي تستبطنها مفاهيم كالشعر الجديد والكتابة الجديدة، فهي عاصمه تُكثف اليمن كبلد محافظ ونافر من التعبير المدني، ومعادي للحريات الشخصيه، ومقسور على هامش حرية سياسيه واعلاميه تُخنق كل يوم. بالاضافه إلى تكريسها لقيمة الجماعيه ( القبيله، المذهب، النسب.. الخ ) كتشكيل تنبني في اطاره الوحدات المكونه للمجتمع ويتحدد حضور الافراد ومواقعهم في المجتمع بناءاً على موقعهم التراتبي في الوحدة الاجتماعيه التي ينتمون إليها. وهي قيمه يُعادي الاعتزاز بها حضور أي تعبير فردي نافر من نسقها الثقافي وسلوكياتها الاجتماعيه. وهو عداء فعلي يتجاوز ضرب الادانه الصامته ليأخذ تعبير مُشهر قد تكون ابسط مستوياته العنف اللفظي المتكرر والتواطئ الجماعي على التشهير والنبذ، إذا لم يتجاوز ذلك إلى اباحة الدم والاعتداء المادي المباشر!!.
صنعاء المكان المحتفى به كعاصمه للشعر الجديد الذي تنبني احد اهم القيم التي يستبطنها على تأكيد ذات الفرد عبر تأكيد اطلاقية حريته لم تُفسح مساحه اوسع قليلاً للنساء اللواتي لايرتدين الحجاب، أويتأخرن في السهر خارج المنزل، أو يدخن. ولا للرجال الذين يحلقون شواربهم، ويفضلون ارتداء " بناطيل الجنز " على " القميص و الجنبيه "، والغناء بصوت مرتفع دون القاء البال على رصانة مفترضه. هذا إذا تجاوزنا انعدام المساحه الكلي لمن يتناول المشروب مثلاً!!.
لايمكن ابداً تجاوز تفاصيل كهذه حين ايرادنا لمكان باعتباره حاضن للشعر الجديد او الكتابه الجديده، فهما تعبيران ثقافيين يتصلان بشده بنسق اوسع من التطورات المعرفيه والاجتماعيه والسياسيه تشكل بمجموعها البيئه اللازمه لحضورهما، فالتأكيد على الحقوق السياسيه والتمكين الاقتصادي للكيانيات الصغرى في المجتمع ( الطفل، المراة، الاقليات.. الخ ) مسألة شديدة الالتصاق بقصيدة النثر مثلاً، فلا يمكن التأكيد على حقوق الذات الفرديه في التعبير الشعري دون حضور خلفية التأكيد على حقوقها في التعبير السياسي مثلاً، وتمسك المرء بحقه الفردي في التصويت والاقتراع بمعزل عن الاختيار الجماعي هو في جوهره يتصل بتمسك الشاعر او الكاتب في التعبير الكتابي الحديث بفكرة تأكيد صوته الخاص بمعزل عن مرجعية الجماعه او الاباء او الشكل. إن التطورات الديمقراطيه بصيغتها الليبراليه التي تعصف بالعالم ، والتطورات العلميه، وتسارع ممكنات الاتصال الانساني، وسيولة المعلومات، يسرت امام الانسان المعاصر تفكيك مواقع تركز الشموليات السياسيه والاجتماعيه، والاحتكارات الجماعيه، واتاحت للفرد التفكير الحر، والتخلص من رعب المؤسسات والرقابه، وخلق شبكة علاقات غير مسيطر عليها ضمن منطق جماعي. كل ذلك كان البيئه الحاضنه التي تشكلت في اطارها التعبيرات الكتابيه الحديثة ومن ضمنها الشعر الجديد الذي يُفترض بان تكون العاصمه العربيه له صنعاء، المدينه التي مازلت تقع خارج كل هذه التطورات التي تجري في العالم والتي يُستلزم تواجدها لحضوره " أي الشعر الجديد ". وهي لا تقع خارجها بحياد بل تعاديها وتسترخي ضمن موقعها الشمولي شديد المحافظه على الاصعده السياسية والثقافية والاجتماعية. هذا إذا تجاوزنا بالاساس ان صيغة عاصمة للشعر الجديد ذاتها غريبة ومتناقضة، فهي صيغة تتناسل من موقع في التفكير يؤكد على المركزية والسيطرة والصوت الواحد الذي يُستعاض به عن التعدد في الاصوات، وهي افكار لا تتلائم مع هذا النوع من الكتابة الشعرية الذي يحضر في التناثر، والعداء للمراكز، والمرجعيات، والمقولات الموحده!!.
كل اشكاليات التناقض بين صيغة الاحتفاء المرفقه قسراً بالمكان والشعر الجديد بكل حريته كان لابد أن تبرز على السطح، فكان طبيعياً أن ينفر بعض الشعراء من فكرة الالقاء الجماعيه التي تنفي الخصوصية وتموه الصوت ضمن الجماعه، ومجاورة نصوص شعريه خطابيه تحتفي بالرمزيات الدينيه او السياسية أو الاخلاقيه وتكرس التعاقدات القائمة، بنصوص تنشغل بالصوت الداخلي والتفاصيل وتتنكر للإجماعات بل وتميل إلى السخريه منها هو وضع غير طبيعي، يؤدي في واحده من نتائجه إلى الاحتقان،كذلك الذي حدث بقصيدة علي دهيس التي انشغلت باعادة تعريف جمالية للرمز الديني الاكثر قداسة، وقصيدة اكرم عبدالفتاح بهجائيتها السياسيه العاليه لرموز النظام، وهي قصائد - وأن تم الاختلاف عن قيمتها الجماليه وموقعها من العلاقات اللغوية الحديثة التي يحضر عبرها الشعر الجديد - فانها تنتمي لمزاجه الحر الذي يميل إلى تصديع الاجماع وشرخ اطمئنانه.وان ما استتبعته هذه القصائد من تداعيات تمثلت بتكفير بعض الشعراء، والقيود على مشاركة وحركة البعض الاخر، والغاء تكريمهم في هذا الملتقى لأنهم خرجوا عن مُايفترض أن يكون سقفاً حدده الراعي المستضيف (تستبطن ضمنياً فكرة الراعي لملتقى الشعر الجديد سخرية شديده من الشعر الجديد ذاته، وتُفصح عن مقدار المسافة الهائل الذي يُبعد بين صنعاء كمكان محافظ وثقافة تقليديه والشعر الحديث كرديف للحرية ومعادل للثقافة الانسانية الحديثه ). لقد كان من الطبيعي فعلاً ان تستدعي التناقضات في هذا الملتقى تفعيل عنف كامن منذ البداية يتوجس ضمناً من هكذا جمع من البشر الذين يُشهرون عدم التزامهم بالحدود والتعاقدات المُقره والمتعارف عليها ضمناً.
كان الاحتفاء بصنعاء كعاصمة للشعر الجديد في الملتقى الاولى الذي انعقد قبل سنتين بمناسبة اعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية يكتنف ضجيجاً اكثر لانه يجاور بين هذا الاحتفاء الصغير واحتفاءات متعدده ومستمره بذات المكان موهت على المشكلات التي رافقته، ومارست تعطيلاً متواصلاً للنظر في هذا الموقع الذي وضع فيه المكان. بينما في الملتقى الثاني فان الضجيج اقل قدراً، والتناقض افصح صوتاً واعلى، واستدعى قدراً من الشراسه في الرد على من خرجوا عن الحدود التي يحتملها المكان ولم تمتصها الحماية التي يقدمها - لمن خرجوا - فعل الاحتفاء الراهن الذي يوفره شعار صنعاء عاصمة للشعر الجديد، والتي كانت اقل قدراً واقل استيعاباً للتناقضات من تلك الحماية التي توفرت لهم سابقاً في احتفائية واسعه يستبطنها شعار مثل شعار صنعاء عاصمة للثقافة العربية!!.
إن حاصل ضرب صنعاء بالشعر الجديد لايرتب الخفه والود كحاصل مفترض لجماليات المعمار في الاولى وحيوية وحرية بناء وعلاقات الثانية، بل يكون الناتج هو الثقل لتمكن تشوه المكان وانعدام الحرية من صنعاء، وحضور النزق كطابع غالب للشعر الجديد وتمرده على قوالب الامكنة والافكار الضيقة.