الأربعاء، 18 مايو 2005

الـروايـة في فـخ التجـريـب والحـنـين


* ماجد المذحجي
واسيني الأعرج اسم قدم نفسه بهدوء شديد في المشهد الروائي العربي.. واستطاع أن يراكم حضوره عبر عقدين ونصف منذ ابتدأ انجازه بـ ( وقائع أوجاع رجل غامر صوب البحر ) في بداية الثمانينات وانتهاءً بـ ( طوق الياسمين ) في نصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين مروراً بـ ( وقع الأحذية الخشنة ) و( نوار اللوز ) و ( فاجعة الليلة السابعة بعد الألف ) و( المخطوطة الشرقية ) و ( شرفات بحر الشمال ) و نصوص المحنه ( " سيدة المقام " و " حارسة الظلال " و " ذاكرة الماء " ) .....الخ .
عبر عقدين ونصف إذاً استطاع " واسيني الأعرج " أن ينجز عدداً لا بأس به من الأعمال الروائية المميزة التي وضعته بين الروائيين العرب المعقولين في كم إنتاجهم الروائي. بالإضافة إلى أنه استطاع أن يقدم منجزه ضمن لغتين بشكل أساسي ( الفرنسية والعربية ) الأمر الذي كفل له الرواج ضمن دائرة واسعة من القراء تتعدى الإطار المحلي والقومي لتصل إلى الأوروبي عبر واحده من أكثر لغاته رواجاً وعلاقة بالثقافة والأدب.
كل هذا وضع واسيني أمام اختبار أساسي.. فكيف يمكن لأديب توافرت له هذه الممكنات بمعنى الرواج أن يقدم نص مميزاً ومقروءاً لدى مستويات متباينة من القراء غير محكومه بنمط محدد من التلقي أو بمرجعيه واحده على المستوى الثقافي؟؟!!.
قدم ( واسيني ) الأديب والروائي منجزاً مرهون - برأيِ - بحس التجريب بشكل عالي والقدرة على المغامرة من ناحية الأسلوب واللغة ونمط العلاقة بين الذاتي والعام ( خصوصاً في الأخير فلقد اشتغل عليه واسيني بشكل مختلف ومميز عن نظرائه من الروائيين العرب ). ولفت النظر إليه كروائي لا يمكن توقع موضوع ولغة اشتغاله اللاحق أبداً!!.
عبر تناولات روائية مختلف استطاع ( واسيني ) أن يقدم نسق متطور للعلاقة الحية مع اللغة يتجاوز منجز أقرانه من الروائيين العرب المشتغلين على اللغة بشكل خاص ( حيدر حيدر و ادوار الخراط كمثال ). فهو استطاع أن يجعلها في نصه أكثر سلاسة ولاتفقد قدرتها على البريق وعلى اصطياد القارئ المفتون بعلاقات اللغة الواسعة وتراكيبها الجميلة.. واستطاع أن يضبطها بحيث لاتستولي على الحدث، بل تشكل رافعاً أساسي في تصعيد حالات الرواية وشخصياتها.. وساعدت على الدفع بجملة نصوصه الشعرية حتى الحد الأقصى .
لم تقدم لغته تنازل أبداً لصالح مكونات الرواية الأخرى، بل تناغمت معها بشكل ملفت بحيث قادت الرواية نحو أكثر من اختبار أمام كاتبها.. فكان عليه أن يحافظ على وتيرتها العالية والمميزة، وأيضاً يجب عليه الحفاظ على الأحداث كي لا تقع في فخ اللغة واستطراداتها، بحيث تبقي خيطاً رفيعاً يمر من خلالها ويحفظ للحدث والشخصيات امتيازاتها كمواد الرواية الأساسية. وهنا كان امتياز ( واسيني ) الذي استطاع أن يقيم توازن رعب بين هذين المكونين الأساسين لروايته. فلم تفقد الرواية بناءها لديه أبداً لصالح واحد منهما خصوصاً في أعماله الأخيرة. بينما في أعماله الأولى كانت اللغة مهيمنة بشكل واسع على المتن وتدفع عبر جمله انفعاليه كل النص لصالحها.
من زاوية أخرى أستطاع واسيني أن يقدم تناولاً فريداً عبر أعماله الروائية لعلاقات العام بالذاتي عبر زاوية جديدة غير متناوله في المنجز الروائي العربي. فهو فتح الباب لتعرية القضايا الكبرى ( الوطن والشهداء والأحلام.. الخ ) أمام المصائر و الاحتياجات الذاتية للأفراد. الفرد في روايته لم يكن مأسور أبداً لصالح قضيه كبرى.. هو يعاني منها دوماً، إنه يفهمها ويريدها أكثر جمالاً.. ولكنه لايُستلب لصالح صراخها. إنه يفككها عبر مجموعة مطالبه الشخصية. والقضية الكبرى التي لا تشبع حاجة بطلة ولا تقدم خدمه له أو لا تساعده على العيش بشكل جيد هي قضية ساقطة. إنه لا يقع في فخ التوهم السائد لأولوية أن يقدم الإنسان نفسه أضحية لصالح قضايا كبرى!!. إنه يؤكد أن القضايا الكبرى هي بحجم الإنسان تماماً والتي تتجاوزه هي قضية تافهة ولا تستحق الانتباه!!.
في روايات ( واسيني ) كان الوطن مؤلماً بحق.. لكن الأكثر ألماً كانت مصائر أفراده الذين أكلتهم مصائر شقيه قررها عنهم المستفيدين من الثورة ( بني كلبون ) والذين تركوهم لاحقاًَ نهباً للإسلاميين ( حراس النوايا ). لم يكن شيء يعوض عليهم سوى اختياراتهم الجمالية التي تتمثل ( بالرقص و والكتابة والنحت و.. الخ ).
كان الخيار الجمالي دوماً لدى ( واسيني ) هو التعويض أمام الخيبة. فلا يمكن تجاوز الإحساس بالخذلان تجاه أحلام الإنسان إلا عبر إعادة إنتاجها لدى الأفراد بصيغ جماليه مميزه ومترفعة عن الاختيارات القدرية السهلة.
 ( واسيني الأعرج ) ككاتب وروائي محترف لم يخضع لتشكيل فني واحد في روايته. لقد استطاع أن ينتمي لمزاج نادر في الكتابة العربية يحترم التجريب.. ولا يخشى المغامرة فيه. خصوصاً على صعيد بناء الرواية ولغتها. في عملين أساسين في منجزه الروائي كما أظن ( فاجعة الليلة السابعة بعد الألف.. و المخطوطة الشرقية ) استطاع أن يقدم نمطاً مختلفاً تماماً عن بقية انجازه الروائي. بل وفريداً في الرواية العربية. حيث استطاع استثمار تقاليد المحكي العربي القديم وتقديمه في صيغه جديدة وعبر تخييل واسع لا ينتمي لذات الحقل الذي اشتغل عليه في بقية رواياته سواء من ناحية الجغرافيا أو اللغة أو طبيعة علاقات الأفراد. إنه يعمل على الدخول في أرضية مكشوفة تماماً ولم يتم تغطيتها بتوقع مسبق.. إنه يُقدم في بناء فني مميز على تجريب مختلف، يحاور في مفرداته الأساسية الأفراد المؤهلين لكي يصيروا دكتاتوريات مستقبليه.. العلاقات الإنسانية المكشوفة أمام الرغبة والأحلام.. الأحزان والشهوات المتطرفة.. واللغة التي تعمل في حقل قديم من ناحية الأدوات والذي استطاع أن ينقذها من مورثاتها الصلبة.
في مجموعه أخرى من أعماله (" سيدة المقام " و " حارسة الظلال " و " ذاكرة الماء " ) يقدم واسيني رصداً حياً وجارحاً حتى العظم للجزائر اليوم.. الجزائر التي خربها القتلة والفاسدين ورجال المخابرات والإسلاميين. جزائر اليوم لم يتورع واسيني عن محاكمتها بقسوة عبر مجموعة أفراد لا تعوزهم الشجاعة بقدر ما تعوزهم ظروف أجمل. واسيني في هذه الروايات كان أمام اختيارات صعبه، فكان عليه إما أن يقول كلمته ويمضي دون أن يفكر بقضية التوثيق التاريخي الدقيق في رواياته للمرحلة التي تمر بها بلده، بل أن يُعنى فقط بالجملة الجارحة كما يراها من زاويته الفردية كمواطن جزائري عادي وكفنان يتألم لما يحدث في بلده .. وأن يقبض على التفاصيل وهي مشتعلة قبل أن تخبو.. أو كان عليه أن ينتظر. أن يقبع بصمت حتى تنتهي هذه المرحلة حامله كل جروحها وعنفها وأوجاعها ومن ثمة يقوم بالتفتيش في طياتها بحياد مؤرخ، وبنهم روائي يبحث بمصداقية عن متن لرواية يؤرخ فيها لمصائر الأفراد والبلد بأكمله في زمن معين.
لقد اختار واسيني الجملة العالية.. أن يقبض على الجمر وهو مشتعل.. لم يتردد أمام اندفاعه الشخصي نحو أحزان بلاده.. غامر بكل شيء: بحريته الشخصية.. بالكتابة.. وبمصائر أبطال رواياته كي يقبض على جمر الجزائر وهو مشتعل!!.
يبدوا أيضاً من المميز في أعمال واسيني هو شخصية ( مريم )... وهي الشخصية التي يتوزع احتفال واسيني بها من عنوان الرواية ( مصرع أحلام مريم الوديعة ) أو في متن الرواية فقط ( سيدة المقام و ذاكرة الماء... الخ ).
هذه الشخصية المركزية بشكل ملفت لدى واسيني تأخذ بعد واحد ومهيمن لدى واسيني، فهي المعادل الوحيد للأحلام والبياض.. للبشر الذين يغامرون تجاه أحلامهم رغم الخيبة.. الوطن الذي سقط في حفرة الدم رغم جماله.
مريم لم تكن شخصية عابره في أعمال واسيني.. إنها - حتى وان لم تحضر في بعض الروايات- هي الشخصية الأكثر حضوراً في أي عمل. الشخصية السرية التي تختفي خلف المتن وعبر ظلها يُصعد واسيني جملته الشخصية تماماً.. وتتم استعادة الأحلام العفوية بكل بريقها. وعبرها تماماً يقع القارئ في غواية شخصية فريدة تتركه دائخاً بمتابعتها منذ بداية العمل حتى انتهائه.
إجمالاً واسيني صاحب هوية فريدة في الرواية العربية لا يمكن أن تتشابه مع غيرها.. وهو قادر على تضمينها مزاج خاص تصطاد قارئها به رغماً عنه. وفي مجموع أعماله قدم ماده روائية خاصة تستحق الانتباه والاحتفاء والمتابعة. ورغم سوء و محدودية التوزيع الذي رافق مطبوعاته إلا أنه استطاع أن يحضر قرائياً لدى جمهور معقول من القراء العرب.
إن تجربة واسيني الأعرج تجربه مميزه بحق ويمكن أن ادعي دون ندم إنها من التجارب الأهم التي تمتلك خصوصية تستحق أن يروجها كل قارئ جيد لدى أقرانه.