الأربعاء، 12 أغسطس 2009

يمن غير مرئية


ماجد المذحجي
الحضور التفصيلي للمأساة اليمنية مازال خارج المشهد، وضحايا العنف والفقر والجهل والقهر الاجتماعي وفساد أجهزة دولة وغيابها لم يسجلوا حضورهم في الاهتمام العام، وخارج المركزية الشديدة فأولئك الذين يتواجدون في المديريات الريفية البعيدة يسحقون يومياً ولا يحظون بفرصة لان ينتبه لهم احد. في محافظات مثل حجة والمحويت والحديدة تقع على هامش السياسة والتنمية ويندر الاهتمام بها خارج الدورات الانتخابية يتكاثر العنف اليومي ويغيب الناس تحت ثقل تسلط مرعب تنتجه تراتبيات قبلية شديدة الوطأة عليهم، وتنتج انظمه اجتماعية ذات طابع إقطاعي حقيقي تعتمد على القهر لضمان ديمومتها ضمن معادلة يصبح فيها الشيخ هو الرديف الفعلي للوحش الذي يقتات على أجساد ضحاياه، وكان في الأمر تمثيل حقيقي لذلك المدون، أو المتخيل الشائع، عن النظام الإقطاعي الأوروبي في القرون الوسطى ولكن ضمن إحداثيات أخرى تقع جنوب الجزيرة العربية وبتوقيت زمني متأخر بخمسة وستة قرون. يتحالف الشيخ مع السلطات المحلية ومديريات الأمن والجهاز القضائي مقيماً شبكة واسعة من العلاقات والمصالح المتبادلة التي تعزز نفوذه ضداً على رعاياه، مما يجعل هؤلاء الأخريين دون أي حماية وعرضه لـ"تغوله" الفعلي.
مؤخراً حظيت بفرص متكررة لزيارة هذه المحافظات وسجونها وأماكن الاحتجاز فيها ضمن وظيفتي في برنامج الحماية القانونية لضحايا العنف من النساء والأطفال الذي ينفذه منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان، الأمر يتعلق تماماً بانتزاعي من ترف الحديث العام عن الانتهاكات ليخضعك لتجربة قاسية تجعلك على مستوى قريب من العنف اليومي الذي يتعرض له الناس، حيث تصبح جدلياتنا المتواصلة في الفعاليات الحقوقية لغواً على هامش أجساد تتعفن وحياة تسحق بالمعنى الحرفي لذلك. إن مشكلتنا الفعلية نحن النشطاء أو الصحفيين، علاوة على كونها مشكلة السياسيين الفعلية، هي في تجريد مايحدث، نزع الضحايا من إنسانيتهم ليصبحوا إنشاء بلاغي، ولتصبح أيضاً التجربة الشخصية شديدة الألم لكل فرد منهم مجرد حاصل جمع في تقاريرنا الحقوقية أو قصة سريعة على هامش الصحف. تسقط التفاصيل أثناء الحديث باسترخاء عن الضحايا ضمن أدوارنا العامة، ليصبح ذلك، إلى جوار فشلنا كنشطاء حقوقيين في القيام بحماية حقيقية لهم، انتهاك إضافي، فالتفاصيل تنفخ الحياة في المأساة وتمنحها هيئة وملامح، وتنقل الحديث من المجرد نحو الملموس، ليصبح هؤلاء الضحايا مرئيين بالفعل بالنسبة لنا.
إن الفشل العام في حماية الناس من المظالم هو عنوان عريض لفشل الدولة في قيامها بواجبها الأساسي تجاه مواطنيها، فحقها التكويني في احتكار القوة وتفويض المواطنين لها باستخدامها مشروط بإنفاذ العدالة وقيام الإنصاف. ليصبح عدم تحقق ذلك هو الفاعل غير المعلن لضعفها المستمر وتلاشي حضورها في كل مكان على الخارطة الوطنية، ولذلك يخرج الناس باستمرار، حقاً وباطلاً، لتحصيل حقوقهم بنفسهم أو التعدي على غيرهم أو عليها.
يتحالف في مديريات حجة والحديدة والمحويت غياب الدولة مع استشراء الفساد بين ممثليها وعنفهم غير المقيد، ويتعرض الناس لأشكال من متعددة من الابتزاز والتعدي والقهر، ويتفاقم الأمر بكونهم غير مرئيين في مراكز محافظاتهم ولا لنا أيضاً في العاصمة، وبسهولة يمكن تحسس الخوف والإنهاك في ملامح الناس، وفداحة التناقض بين وفرة الأرض وخيراتها وما أصبحوا عليه من عوز وتعب.
اليمن مازالت غير مرئية بالفعل، ونحن نحتاج جميعاً مشاهدة التفاصيل، وتلمس المسافة التي تفصلنا عما يحدث فعلياً على هذه الأرض، وتربية حساسية تجاه الألم الذي ينوء تحته الناس بينما نحن منهمكين في معاركنا الصغيرة وانجاز انتصارات لا تحدث فرقاً في حياة احد أبداً.
نشر في صحيفة النداء