الأربعاء، 25 يوليو 2007

احتقان الجنوب يُعيد اختبار المسلمات الوطنية


ماجد المذحجي
سابقاً كان امتياز "الوحدة" بالنسبة لليمنيين أنها مُجردة ولم تخضع للاختبار. كانت شعاراً مهيمناً يكثف احتياجاً عاطفياً عاماً، وجاذبيته تستمد من كونه مشتهَياً وغير متحقق!
 لقد أنتجت "الوحدة اليمنية" كفكرة حيوية ومهيمنة في التاريخ اليمني الحديث، ضمن سياق الأفكار "القومية" التي عصفت بالعالم العربي منذ أربعينات القرن الماضي، وتشكلت تحت ضغط فكرة الاندماجات والتكتلات التي ميزت العالم بأكمله في تلك الفترة. لم تكن الغاية "يمنية" في ذاتها؛ بمعنى أن تكون الوحدة بين المكونات اليمنية هي السقف و"الأمل كله"، بل كانت "العتبة" فقط، باتجاه الوحدة العربية، كما تؤكد معظم النصوص الإيديولوجية والسياسية اليمنية. ذلك الطموح (الاندماجي القومي الشامل) بالطبع تم خفضه بعد بدء تعثر الفكرة القومية، عقب فشل التجربة المصرية السورية وهزيمة حزيران. (رغم الاحتفاظ بهذا الطموح ضمن النصوص العامة وبشكل مجرد وشعاراتي)، وتم الاكتفاء بالإطار الوطني للوحدة، وتغذيته ضمن مستوى تعويضي لليقين الصامت باستحالة تحقق التوحد القومي (بدرجة أقل، كان التأكيد على التوحد الوطني لحماية الإمكانية "الرمزية" على الوحدة العربية، وعدم استحالتها عبر تقديم نموذج يمني)، وبذلك صارت العتبة سقفاً!
دخلت الوحدة لاحقاً في معلب "المزاودة" على الوطنية بين القوى السياسية المختلفة؛ خصوصاً وأنها تتيح ابتزازاً للجماهير الذين أنشأوا علاقة عاطفية حادة معها، وبدأت تهيمن كمطلبية لهم في مواجهة "السياسيين" الذين احتموا بها، وصعدوها للواجهة باستمرار، لتجنب المطلبيات التنموية بالأساس، أو أي شكل من أشكال المساءلة العامة لهم. يمكن فهم ذلك بالتالي: في المعتاد، وعقب الصراعات المسلحة التي حدثت بين الشطرين الشمالي والجنوبي سابقاً، كان يتم توقيع اتفاقية تتعلق بمشروع الوحدة بينهما. الأمر كان أشبه بجرعة "بنج" للعموم، تخدر أي سؤال حول الضريبة الفادحة التي خلَفها النزاع العسكري بين النظاميين!
عقب تحقق الوحدة اليمنية وقيام الدولة الجديدة، أحيل الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي، الذي ميز العهد الجديد إلى امتياز الوحدة فقط، وكنتيجة فورية لها بالضرورة، لم يكن له أن يكون دونها! وعلى الرغم أن في ذلك شيئاً من الصحة، إلا أن السياق الذي تم فيه التأكيد على إيجابية الجملة السابقة كان إيديولوجياً "فرصاً"، ويتجاهل أن أحد دوافع التحول الجديد، مثلاً، هو إنتاج توازنات بين الشريكين اللدودين (المؤتمر والاشتراكي)، ولحماية ومنح الشرعية للقوى والتحالفات التي أقاموها أو ساندوها قبل الوحدة، كلّ لدى الآخر؛ وبالتالي فإن الأمر ليس خيراً كله!
في مستوى آخر، كان السياق السلمي الذي أنجزت الوحدة "الاندماجية" فيه عام 90، مُعلقاً لـ "خيرية" الوحدة أيضاً. وقسر الشريك السابق دموياً على الوحدة في صيف 1994 كان مُبرراً بها أيضاً! كانت تلك مقدمة ضرورية تفصح بالضرورة عن التناقضات التي يؤدي لها الاستثمار السياسي "الرديء" لفكرة الوحدة، وتكثيف الخلاص بها، بعد أن بدأت تختبر في الواقع وتخضع لمشاكله. ولم يعد يُكتفى الاحتفاء بتحققها، لتوهم إنجاز التنمية أو إنشاء المواطنة المتساوية!
تبدت واحدة من أهم المشاكل التي رافقت الوحدة بصيغتها الاندماجية أنها أهملت "إحساس" الأفراد والمناطق اليمنية بكيانيّتهم، وأنتج التأكيد الدموي اللاحق تغذية لكيانية جهة (شمالية)، وزعزعة لكيانية جهة أخرى (جنوبية). إن التأكيد على المكان كهوية، هو أحد مستويات التعريف المتعاقد عليها ضمن الجغرافيا اليمنية، وهي معطىً مهم يتم من خلاله تمييز الفرد إيجابياً، أو استضعافه؛ كونها أصبحت عنصراً أساسياً في تقييم مستوى القوى المضافة له. ذلك باعتبار المكان مستوى من مستويات السلطة العامة (الاجتماعية والسياسية). إضافة لذلك أصبح المكان عصبية بحد ذاته، عصبية مستقلة عن العصبيات التي توجد في إطار حيزه (القبلية أو المذهبية... الخ)، وتشكل أحد مستويات التضامن بين الأفراد؛ خصوصاً في حال ضعف العصبيات التقليدية. ضمن ذلك يُعرف الجنوبي من خلال المكان، وبالتالي يشعر أن النفي الذي تعرض في 94 تم في إطار هذه الهوية التي تعرفه عموماً، الأمر الذي يُفهم عبره تأكيده على عدم استدعائه لهويته المذهبية مثلاً، لتعريف نفسه؛ باعتبارها هوية جامعة وفضفاضة، ستضمه مع قطاع أوسع، مثل أبناء المناطق الوسطى (تعز وأب)، لا يتعلق بهم النفي والانتهاك الذي حدث له، ولأن هذا الشكل من التعريف "المذهبي" يرتب فرزاً اجتماعياً مختلفاً عن الشكل القائم الذي تم انتهاكه في إطاره.
تجريد "الجنوبي" من تقديره لذاته، وسلبه التعريف الإيجابي الذي يوفره "مكانه" له، أعقبه تجريد من الحماية وامتيازات الشراكة (في الإدارة لجهاز الدولة، والموارد العامة، والجيش... الخ) مع "الشمالي"، وهي الشراكة التي كانت عنصراً أساسياً في تبرير الاندفاع نحو الوحدة، بجوار العنصر العاطفي، حيث لن يشعر "الجنوبي" بالرعب من الإحساس بـ "فراغ السلطة" المفاجئ.
الصيغة السياسية والأمنية التي رتبتها حرب 94، بررت وأتاحت استباحة "الجنوبي" (الخاسر بالعادة، عرضة للفيد في الثقافة اليمنية المضمرة على المستوى المادي والرمزي، حيث يتم استلابه وخفض تمثيله في كافة مستويات الحياة كونه خاسراً، إلى أن يتمكن من إنشاء قوة له تجبر المنتصر على الانتباه له واحترامه) الذي لم يعد معززاً بأي "درع" سياسي أو عسكري أو اجتماعي، يحمي تمثيله العام وموارده ونسق معيشته. وأصبح الموقع الرسمي المحجوز لتمثيل "الجنوبي" (نائب الرئيس، رئيس الحكومة، وزير الدفاع) شكلانياً تماماً، ومفرغاً من أي دور حقيقي، ومولداً للمرارة أكثر؛ كون هذا التمثيل الحاصل الآن في مختلف أجهزة الدولة، والذي يُفترض أن يدل على تمثيل متساوٍ مع "الشمالي"، يصبح تأكيداً على العكس، وغير مرْضٍ أبداً (حيث يصبح "الجنوبي" في أي موقع رسمي مجرد "أراجوز" أو "ديكور"، وفق التداول والتقدير الشعبي القائم، وهو نفس التقدير مثلاً الذي يخص "التعِزّي" في أي موقع رسمي يُمثل فيه. وإن كان لا يسبب نفس قدر المرارة التي يشعر بها "الجنوبي"؛ كون "التعزي" لم يكن يملك "دولة" يشعر بخسارتها، وفقد بسبب ذلك سلطة ونفوذاً وامتيازات متعددة!).
الاحتقان الحاصل في الجنوب الآن، مؤسس على الانخفاض في تمثيله على مستويات متعددة من السلطة، والاستضعاف للتمثيل "القليل" القائم، والتعالي على تقدير الفرد الجنوبي لكيانه بسبب انتمائه لمكان "ضعيف" وغير مؤيد بأي عناصر قوة (يمكن بسهولة رفع الصوت بلهجة "شمالية" في مكان جنوبي تأكيداً على قوة وانتماء أعلى لصاحبه)، والسهولة في "استباحة" حقوقه (الأراضي، والوظائف... الخ)، والتمييز في الفرص لغير صالحه، وممارسات إثبات السلطة عليه (عادةً ثمة مسؤول "شمالي" في المواقع الرسمية المهمة في المحافظات الجنوبية، مثل موقع مدير الأمن العام، أو الأمن السياسي، وقادة الألوية والمحاور العسكرية والمحافظين... الخ).
بذلك يصبح التعامل "المؤقت" مع ماهو حاصل من احتقان في الجنوب، والإدارة الطارئة للازمة ضمن ذهنية أمنية، والاستعلاء "الوطني" على "المطلبيه" الجنوبية لكونها جنوبية، محرضاً على رفع درجة الاحتقان، ويوفر أسباباً عميقة للانفجار. "الوحدة"، كشعار وحاجة وعاطفة وواقع قائم، لا تعني نفي "الجنوبي" والاستعلاء على "الظلم" الحاصل له، كما لا توفر ردود الفعل "العصابية" تجاه "الشمالي" القائمة في الجنوب، والتي لا تميز القائد العسكري عن صاحب البسطة البسيط، مبررات لإنشاء "عصبية" شمالية مقابلة تجاه "الجنوبي"، توفر مبررات أخلاقية مريحة لنزع الوطنية عنه، وعدم الإنصات لقضيته ومشاكله الحقيقية. وليست "الوحدة"، ككلمة مجردة، هي الهدف، بل الإنسان الذي تكفل له هذه "الوحدة" الرخاء والتقدم والإحساس بالمواطنة المتساوية، ولا تصبح مُبرراً لانتهاك حقوقه والتعالي عليه.
نشرت في صحيفة النداء

الخميس، 12 يوليو 2007

عن جذر "الدم" في اليمن، العنف معطى تأسيسي للدولة والمجتمع والسلوك العام!


ماجد المذحجي
لا تغادر العملية الدموية الأخيرة في اليمن ثقافة عنف "أصيلة" في المجتمع، وان كانت تفارق في مستواها "الممانعات" العرفية السائدة التي تعطل الفجور في استخدام العنف بالعادة كما حدث في عملية مأرب. فهو تفجير دموي تأسس على نسق إيديولوجي مستقل عن إطار المنافع والتسويات الذي يوظف فيه العنف المعتاد محلياً.
إن العنف يُبرر في اليمن بشكل تلقائي، ويتم التعايش معه دون قلق، فهو نسق ثقافي مهيمن ويُحترم بشده على المستوى المجتمعي والسياسي، ويبدو كمعطى كثيف الحضور في الحياة العامة. وبشكل ضمني يعتبر احد أشكال التسويات الرائجة التي يلجأ لها الأفراد والمجموعات بالعادة لحماية أنفسهم وللتحصل على الحقوق والرزق! ضمن ذلك الإقرار الواسع له يمكن تفهم حضوره اليومي في الحياة اليمنية، سواء على شكل نزاعات صغيره أو ضمن نزاعات واسعة، وبالتالي عدم وجود ردود فعل "شعبية" ساخطة تجاهه! ولا يبدو حضور الدولة نافياً للعنف، ضمن الافتراض النظري الذي يؤكد أن تواجد السلطة يؤدي إلى تقلص العنف، كونها الجهة الوحيدة التي تحتكر شرعية العنف كما يُفترض، وكونها كمنظومة قوانين، وجهاز لإدارة المصالح العامة، وأداة قمع، تجفف أسباب العنف، وتخفض الاحتياج له. ويبدو الأمر الحاصل هو أن ضعف الدولة وعدم قيامها بوظائفها بشكل عادل وعقلاني يعزز العنف، ويسوغ للناس استخدامه في مواجهتها والاستمرار في إضعافها، وتتشكل مصلحة لهم في حماية هذا الضعف وتكريسه. بالإضافة طبعاً إلى أنه مكون تأسيسي للدولة، واحد أشكال الشرعية "الضمنية" التي تتغذى عليها، وهي أقرت التعايش معه، وتقديم التنازلات والمنافع للمجموعات التي تمتلك نصيباً كبيراً منه، بل وغذت التنازعات بينها في ظل استثمارات سياسية خرقاء من قبلها!

فائض العنف
 على المستوى العمومي يمكن إدراك أننا بلد فائض بالعنف، تمتلئ حياتنا برموزه، وأنشئت اعتماداً عليه أنماط تفكير، وانظمه ثقافية، وقيم عامه، وأصبحت لدينا حساسية خاصة تجاهه. العنف أصيل لدينا، وبالعادة كنا مُصدر أساسي له، وهو شأن يعود ربما إلى أن طاقة العنف لدينا أكبر من قدرتنا على إدارتها محلياً، خصوصاً وان المجتمع انشأ آليات حماية عرفيه تعطل الإفراط في استخدامه لضمان التعايش معه (الأعراف القبلية في ما يخص العنف والقتال على بدائيتها تشكل ضمانه معقولة لتعطيل الاستخدام المفرط للسلاح الشائع بشده، فهي من جهة تعطل الفجور في العنف، ولكنها أيضاً تكفل ديمومته وعدم القضاء عليه، فهو مصدر للتكسب بالنسبة للقبائل، وبناءاً على طاقة العنف لدى القبيلة، ومدى قوتها، يتم تقدير الامتيازات التي تترتب لها من الدولة وموقعها من التحالفات المكونة للسلطة عموماً)، الأمر الذي يرتب فائضاً غير مستخدم محلياً يجد تصريفه في أزمات خارجية ضمن الدوائر القومية والدينية ( العراق، أفغانستان، البوسنة... الخ) يتسول مبررات أيديولوجية كثيرة للدخول فيها (فكرة الجهاد الديني بشكل أساسي)، وكان الارتخاء الأمني للدول التي يذهب لها فائض العنف (يتكثف فائض العنف في اليمن بالعادة بمجموعات من المتطوعين الجهاديين) والتواطؤ الإيديولوجي مع أهدافه من أنظمتها أو جوارها الإقليمي ييسر الأمر كثيراً أمامه. الأمر تغيير، حيث رتبت أحداث 11 أيلول تحولاً في الموقف من العنف على المستوى الدولي والإقليمي، خصوصاً العنف السياسي المؤسس على الإيديولوجية الدينية، وانخفض الاحتياج الأمني والسياسي الذي يستثمره من قبل عدد من الدول (السعودية، باكستان، الولايات المتحدة... الخ)، وبناءاً على ذلك تم التضييق عليه والعمل على محاصرته وتجفيف مصادره. ذلك انعكس على المستوى اليمني، حيث أضحى الاختناق المحلي به عالياً، واكتسب العنف على المستوى المجتمعي صوراً سياسية وإيديولوجية غير معتادة، ومتمرده تجاه الاستخدامات المعتادة محلياً له، وغير مقيدة بالأعراف التي تعطل الفائض منه بالعادة. وكانت لبوسه الإيديولوجية الجديدة تشكل إغراءاً عالياً لأفراد عديدين يمتلكون الكثير من الأسباب لتوسلها للتنفيس عن احتقانهم، خصوصاً في ظل دوله لا تملك الكثير في مواجهة العنف، بسبب ضعفها، ولكونها بالأساس طرف يقوم باستثماره سياسياً في مواجهة خصومها المحليين بشكل غير عاقل، وبدرجة أقل لممارسة الابتزاز السياسي تجاه الدول بغرض التكسب على المنافع منها!

استعادة فائض العنف
إن عودة المتطوعين الجهاديين إلى اليمن، هي بمثابة استعادة الأصل "العنفي" لفرعه، ولكنه يعود نافراً من خصائصه الأساس ومنظومته الثقافية الأولية التي نشأ "عوده" فيها، مكتسباً مؤيدات أعلى تدفعه لاستخدام طاقته لمطابقة نموذجه الإيديولوجي "المكتسب" على الواقع بالقسر الدموي، وهو نموذج يتأسس على فكرة النقاء، ضمن مزاج تطهري حاد، يرى العودة إلى الصواب والأصل "الديني" قائمة على استئصال الفساد "الدنيوي" وعدم التصالح مع عناصره (الدولة والثقافة السياسية والمدنية الحديثة، وكافة أشكال العلاقة والاتصال العصري مع الحضارة)، ولا يخضع للتقنين العرفي للعنف القائم في المجتمع، فهو معطل لرسالته الإيديولوجية، ولكنه يقره بشكل محدود، ويتعامل معه، ويتفهمه، ويتجنب الاصطدام به، كما يستثمره بشكل برجماتي لحماية نفسه لحين تأدية هدفه!

في التمييز بين جيلين
يمكن تمييز الجيل الجديد من المتطوعين الجهاديين الذين عادوا من العراق بشكل أساسي، عن الجيل السابق الذي عاد عقب "تحرير" أفغانستان: حيث كان الجيل الأول ذاهباً للجهاد ضمن غطاء سياسي إقليمي ودولي، شرعن أفعالهم واحتفى بها، ولم تكن الجملة الإيديولوجية المتطرفة ضمن بعدها السياسي المتعارف عليه الان قد نضجت وتشكلت لها ملامح كما الان (الخطاب الإيديولوجي لتنظيم القاعدة تحديداً) وبالتالي انفعالهم بها كان فضفاضاً بالمعنى السياسي، ولم يكن ضمنها مسوغات لخصام عنيف مع نظام الحكم المحلي، رغم الضيق الذي كان يلمس لديهم من المفاسد الدنيوية التي يحميها. الجيل الجديد الذي عاد في الآونة الأخيرة من العراق، أقل تصالحاً وأكثر عنفاً، فلقد تأسس انفعاله الإيديولوجي على الرمزية العالية التي شكلتها هجمات القاعدة في 11 أيلول، وهو شأن تضاعف مع احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، ومن ثم العراق، وكان ذهابه للجهاد في العراق مقيداً تماماً، لا يحظى بمباركة سياسية من أي جهة وتعرض للتضييق الأمني بشدة الأمر الذي يرتب سخطاً تجاه "النظام" وميلاً لتأكيد فكرة "عدم إيمانه" وعمالته (إذا استثنينا التعاطف الجماهيري مع المجاهدين في العراق تحديداً ، فلم يشمل هذا التعاطف من ذهبوا لأفغانستان في المرة الأخيرة، ويعود جذر التعاطف هنا لخلفية قومية حتى وأن كانت متنكرة خلف صيغ دينية).بيئة العنف في العراق كانت حادة للغاية، ولم يكن الخصم مفروزاً ومحدداً بسهولة كما في أفغانستان (الاتحاد السوفيتي سابقاً، والولايات المتحدة حالياً)، بل كان متداخلاً مع خصم أخر، أخذ الصفة المذهبية! إن ذلك يخلق عنفاً أعلى، فالتنازع مع العدو المذهبي أكثر قسوة من التنازع مع "كافر"، ورتبت بيئة النزاع العراقية، التي يسيطر على المساحة الأكبر فيها الخصم المذهبي (الشيعة العراقيين) إضافة للأمريكيين، إحساساً أعلى بالخطر والتوجس، وربى ميل استئصالي أكثر عنفاً لدى "المجاهدين". ذلك كله يتغذى على جملة إيديولوجية جاهزة يوفرها تنظيم القاعدة، وهي جملة تمتلك رؤية سياسية واضحة على بدائيتها. كما أن الخبرات العنفية التي تشكلت في العراق تبدو أكثر دموية، وهذا شأن يعود لأسباب تتعلق بالإحساس بفارق القوة تجاه ضخامة الخصوم الأخريين (الشيعة والأمريكان)، وهو شأن يتم ردمه باستخدام وسائل أكثر دموية بغرض الترويع بشكل أساسي. كل ذلك عاد المتطوعين الجهاديين اليمنيين به: خبرات عنف أعلى وأكثر دموية، إحساس مدمر بالمخاطر والتوجس، وجملة إيديولوجية أكثر تماسكاً وتطرفاً! 

الدولة جهاز عنف
تمارس الدولة في اليمن العنف كأداة السيطرة السياسية الأبرز على الحياة العامة، وكخيار لنفي الخصوم، أو لإضعافهم والوصول إلى تسوية معهم! لقد تأسس النظام السياسي الحديث في الشمال والجنوب على العنف، واعتبر دوماً خياراً باتجاه انجاز السياسة وإدارة تحولاتها. فالنظام الجمهوري في الشمال تأسس على ثورة عنيفة، تغذت شرعيته على الدم "الوطني" المبذول فيها، وكانت الصراعات العنيفة التي أعقبتها فاعل أساسي في التغيرات التي حدثت في السلطة، وعبرها يتم إنشاء الشرعية! ينسحب ذلك على الجنوب، الذي أنجز دولته اعتماداً على ثورة عنيفة ضد الانجليز، ومن ثم كان العنف خلفية للتجاذبات والفرز السياسي والإيديولوجي الذي استغرق تشكيل النظام هناك لهويته واختياراته السياسية. بعد الوحدة كان العنف هو الخيار الذي اعتمد لتسوية الخلاف بين الشريكين الوحدويين، وعبره قام المنتصر بتأكيد سلطته لاحقاً. لا يأخذ العنف صيغة مادية فقط في، بل اعتمد أشكال مختلفة: تلفيق التهم والمحاكمات السياسية للمعارضين والصحفيين أحد مستويات العنف. تفتيت الأحزاب، تغذية النزاعات القبلية، ودعم مجموعات أصولية مُسيطر عليها بغرض ترويع الخصوم، الاختطاف والضرب والمضايقة والتشهير مستوى أخر منه أيضاً. كل ذلك يفصح عن هيمنة العنف على الأجندة السياسية للدولة، وهيمنته على أدوات عملها في الحياة العامة!

إجمالاً هذه المادة هي محاولة لفتح نقاش موسع حول جذور الدم في اليمن، وتجلي العنف في الثقافة والسلوك والسياسة. وهي اعتمدت الحدث الدموي الأخيرة كمفتاح لطرح الفكرة، لكن بحرص على تجنب الاستجابة السياسية الآنية، وميل لتفحص أعمق لطبقات الحدث وخلفيته العامة!

نشر في صحيفة الشارع