الخميس، 30 أبريل 2009

حادثة الحصبة حين تصبح تأكيداً لتفاقم العنف وتلاشي الدولة


ماجد المذحجي
يتيح تبرير العنف بفكرة دينية إيقاظ طاقته القصوى، حيث يصبح ضماناً لخلود الجماعة وتعريفاً لهويتها التي تتأكد بإلغاء النقيض و"شيطنته". في حادثة "الحصبة" يحضر ذلك: جموع غاضبة ترى في عبدالملك البيضاني، المتهم بتمزيق القرآن الكريم، نقيضها الشيطاني، الذي يجب إلغاؤه لتؤكد ذاتها، ويصبح تدمير منزله على رأسه، وعلى رؤوس أفراد عائلته، بالنساء والأطفال الذين فيه، هو "المطهر" الذي يتم عبره التخلص من كل الخطايا الشخصية لكل فرد شارك في الهدم، وتصبح كل التفاصيل اللاحقة عن سيرته السيئة أو وجود سيديهات وصور وغيره تأكيداً إضافياً لـ"نقاء" الفعل الذي قاموا به، واكتمال "شيطنة" عبدالملك في المقابل!
إن حضور العنف بتلك الطريقة في "الحصبة" هو تأكيد لغياب السلطة. ذلك تأكيد جوهري، حيث العنف بطبيعته نقيض للسلطة، باعتبارها جهة تنظيم ورعاية على الأقل. وحين لا تستطيع السلطة، أي سلطة، وقف العنف، فهي تحاول تبريره. وإذا تفاقم فهي تتلاشى بالمقابل. حين حصلت حادثة هدم منزل عبدالملك كان أفراد الأمن موجودين، شهود محايدين على تفلت العنف وعجز السلطة أمامه. وحين تحركوا لإنقاذ عبدالملك من هدم المنزل على رأسه هو وعائلته، لم يكن ذلك انطلاقاً من واجبهم، بل لإدراكهم أنه يجب تبرير ما حدث. مقتل عبدالملك، أو أي آخرين في المنزل الذي هدم، لو حدث حينها كان سيلغي إمكانية تبرير الواقعة، وستتفاقم مسؤولية انفلات العنف على السلطة. إن أفراد الأمن بإخراجهم عبدالملك من تحت أيدي الحشود الغاضبة كانوا يحمون فشل السلطة في وقف العنف، ويحمون "الأضحية" التي ستقدم لتبريره، و"شرعنة" كل ذلك التمزيق العلني للقانون ووجود الدولة وكافة مظاهر الوحشية المتفلتة وغير العاقلة جهاراً نهاراًَ.
تم رعاية كل ذلك دينياً، حيث احتاج المحرضون والجمهور لمباركة ما سيقومون به. كان هناك لذلك خطيب الجامع، الذي قام وآخرون بالتحريض على عبدالملك، ولاحقاً الترويج لسوء سمعته هو وأمه "مكية"، والإشراف أيضاً على الهدم. ولكن هناك أيضاً روايتان عن دور الشيخ عبدالمجيد الزنداني في الواقعة من البدء. يقول من قاموا بهدم منزل عبدالملك والشروع في قتله إنهم استفتوه (الزنداني) في دم الأخير فأباح لهم دمه، وكما يبدو بيته وأرض البيت الخالية بعد الهدم أيضاً، والتي صارت وقفاً للجامع بقرار من خطيب الجامع، الخصم، بجوار آخرين، كما يفترض قانونا في القضية. بينما يقول مكتب الشيخ عبدالمجيد إنه نصح من اتصلوا به للاستفتاء في ما قام به عبدالملك باللجوء للشرطة والنيابة، معفياً نفسه من المسؤولية اللاحقة عما حدث! ذلك جيد إن حصل حقيقةً، وغير معتاد أو متوقع منه، كونه يصعب على شخص يحظى بثقله الديني الكبير من تسليم الناس بـ"غيرته" على الإسلام وبذله الدم ذوداً عن مقدساته، فهل يتخلى عن ذلك التقدير لصالح نصيحة ستبدو متخاذلة أمام مسلمين "غيورين" متحمسين للدفاع عن الدين يقول لهم فيها بالذهاب إلى الشرطة فقط؟
ما حدث مرعب، ويضع الجميع أمام مخاوف ما يفعله التحريض، واستجابة الناس للعنف، وغياب الدولة وحيادها أمام انتهاك القانون. يُمكن أن يصبح أي فرد أو جهة عرضة لما حصل في الحصبة ذاته، حين يقوم أحد ما بالادعاء عليه بأي تهمة تنال من علاقته بالدين، ودون أي تأكيد لها بالضرورة. لم يتعاطف الكثيرون مع عبدالملك أو أمه أو النساء والأطفال الذين كانوا في المنزل، حيث حدث الاعتداء عليه وهدمه، ابتدأ الأمر بالادعاء عليه بتمزيق القرآن الكريم، ليلتحق بهذا الادعاء استدعاء كل ما اتهم به سابقاً، والإشاعات عنه وعن دور والدته، ليصبح أي تعاطف عقب كل ذلك شراكة في ما قد يكون قام به، هو أو والدته، أو على الأقل تبريراً له. الأسوأ أيضاً أن أحداً لم يتعاطف مع القانون، الذي تم التعدي عليه وتأكيد غيابه بأسوأ طريقة ممكنة. ولم ينشغل أحد بإمكانية أن يكون عبدالملك ارتكب فعلاً كل ما اتهم به، ولكن ذلك لا يحرمه من حقه بالدفاع عن نفسه وعن كونه يمتلك حقوقا توفرها "مواطنيته" وخضوعه للقوانين.
نشرت في صحيفة النداء

الخميس، 16 أبريل 2009

المقالح والبردوني.. تناقضات الازدحام على الموقع رقم 1


ماجد المذحجي
اندرج عبد الله البردوني وعبد العزيز المقالح في موقعين متناقضين في الانطباع العام، الأول وصف بكونه "شاعر الشعب"، والثاني "بشاعر النخبة"، وصنف الأول ضمناً بخصم للسلطة، والثاني وان لم يكن "مثقفها" فهو اقرب ما يكون إلى ذلك. وعلى عمومية الانطباعات العامة وعدم انضباطها، أو بالضرورة حقيقتها، فهي تعكس تصور استمد من حوادث أو من سياق تجربة كل فرد منهما، وتفصح عن الزاوية التي يتم منها النظر لأدوارهما.
لقد شكل كل من المقالح والبردوني ابرز اسمين ثقافيين يمنيين على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ومنذ لحظة باكرة في مشهد ثقافي يتسم بالفقر، احتكر الاثنين الحضور العام والتعبير عن اليمن. هذا التواجد قرب بعض، خلق في مستوى "تنافسية" غير معلنة بين الطرفين، تؤدي لها طبيعة الازدحام على الموقع الأول بين اثنين، وهو ما جعل العلاقة بينهما مشوشة وغير واضحة ومليئة بالشائعات، وكل ذلك وفر مادة يُمكن استثمارها في بناء الأحكام لتعزيز احدهما في مقابل أخر، بالطبع أياً كان هذا "الأحد" منهما.
 المقالح: مثقف وتحديثي.. وقريب من السلطة
قرب الدكتور المقالح من المستويات الرسمية عادة أدى إلى هذا "الوصف" السلطوي له، وان كان لم يلعب دور مداح السلطان أبداً أو منظره، ولكن المؤاخذات العامة عليه وصفت صمته في كثير من الأحداث بأنه "خيانة مثقف"، علاوة على أن في تسلمه لرئاسة جامعة صنعاء ومركز الدارسات والبحوث وتعيينه لاحقاً في موقع المستشار الثقافي للرئيس ما يدينه، وفق منطق متطرف يقدر نزاهة المرء أو وطنيته بمدى المسافة التي تفصله عن الحكومة!
إن نخبوية المقالح الذي يحضر كأكاديمي ورجل إداري أكثر من كونه مثقف عام أو "شعبي" في بلاد يتبنى فيها الناس الصورة الأقرب لهم، حيث لا يحدث الانحياز الأولي، بالمعنى الانطباعي النفسي إن صح هذا التعبير، لصالح رجل يرتدي كرافتة وبدله "إفرنجية"، بل للأخر الذي يرتدي الكوت والقميص "الدشداشة". كما انه في مستوى أخر شكل النسق الحديث لقصيدة المقالح سبب في عدم عموميته وانخفاض اتصاله بالتعبير الشعبي الذي تنجح الإشكال الكلاسيكية من القصيدة عادة في التقرب منه وحجز الموقع الأول المحتفى به والمتداول بشده.
دفع "المقالح" باعتباره "التحديثي" الأول ضمنياً في الكتابة اليمنية ثمناً مُكلفاً جعل "حياته" مُعرضة للخطر، وفي فترات مختلفة كان "المادة" الأكثر ملائمة للتكفيريين، وشكل اختياره الثقافي الحديث في الكتابة والشعر شيء مفارق فعلياً في مجتمع محافظ بشدة تبدو فيه هذه الاختيارات "عدائية"، واتسم حضوره الشخصي بنبرة هادئة وودودة تتسق مع اختياره الثقافي، ومسافته الحذرة من اصطفافات "السياسة" التي قاربها ربما ضمن فكرة "الأمان" وأولوية "الأدب" على "المواجهة".
حضر المقالح أيضاً باعتباره فاعل مهم في العلاقة مع الأسماء الجديدة في المشهد الثقافي اليمني، واتسم بتجاوبه معها، وترويجها ضمن الحضور العربي الواسع لها، والذي يتلقى شهادته عادة بتقدير، ورغم انه كان يؤاخذ أيضاً بأن ضغط الحرج الذي يتلقاه وكثافة عدد ما يصله أدى إلى "انخفاض" تمييزه بين الجيد والرديء.
البردوني: شاعر ذو كاريزمية استثمر خصومة السلطة
في المقابل تواجد البردوني ضمن مسافة بعيده عن كافة المستويات الرسمية، واثر الحضور ضمن الفكرة "الشعبية" عنه: أي المناضل خصم السلطة، على عدم استوائه ضمنها باستمرار. وكان فاعلاً تماماً في أطار نقابي "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين" حضر في مستوى ما باعتباره محل للمصطفين في الجهة المقابلة للسلطة، خصوصاً في شمال اليمن.
لقد تشكلت ظاهرة البردوني "الشعبية" بالاعتماد على "كاريزمية" الرجل البسيط والواضح، الأقرب للقول اليومي للناس، وأنتج قصيدة يمكن وصفها بـ "الشعبية" لكونها توسلات الانفعالات العامة في علاقتها بالمتغيرات الوطنية والقومية، فشملت تناقضات محسوسة بالنسبة للجميع جعلها تحظى بالرواج، وهو شأن ساعدته عليه بنية القصيدة الكلاسيكية التي تحتمل هكذا تنويعات باسترخاء قياساً بالقصيدة الحديثة.
لقد استطاع البردوني عبر شراكته في السياسة من موقع "المثقف الضد" أن يحمل "نفسه" على خارج حدود "الأدب" إلى عمومية "السياسة"، حيث حضر بجملة "غير مهادنة" اعتراضاً على الأحداث العامة، وهو ما روجه خصوصاً في ظل ظروف خطيرة بدا فيها المتحدث الوحيد بصوت عالي الذي اعتمد في حماية نفسه على جراءة جملته وعلى كونه "لا يؤاخذ" وانه "هكذا"!
بدا البردوني في علاقته بالجيل الشعري اللاحق اقل اهتماماً، منهمكاً في منجزة الشخصي، ولم يستثمر ذيوع اسمه الواسع في ألمنطقه العربية للدفع أو الترويج بأسماء جديدة. اتصاله الشعري والثقافي ضمن المستوى العام يخص تجربته الشخصية كشاعر وباحث، ولم يحضر عادة باعتباره "منفعل" مع الإضافات الجديدة في المشهد الشعري والأدبي، مع وجود استثناءات بالضرورة لهذه تُكسر فيه هذه الدائرة الذاتية المغلقة.
تناقضات الازدحام على الموقع رقم "1"
لم تبدو العلاقة واضحة بين المقالح والبردوني وبدا أنها مليئة بالكثير من النقاط غير الواضحة، وصنفت ضمنياً بأنها علاقة تضاد فيها قدر من الخصومة أكثر من الود. التناقض لايبتدئ بشكل القصيدة التي ينجزها كل واحد منهما، ليمتد ليشمل الاختيارات في السياسة، الذي بدا فيها الأول ميال للصمت عن مشاغلها والثاني مندفعاً في قلبها، وأيضاً طريقة الحضور الشخصي التي يتسم فيها المقالح بالتهذيب والكياسة والتحفظ، بينما اشتهر عن البردوني الحضور الشخصي اللاذع وانخفاض الاهتمام بالرسميات. شكل العلاقة المباشرة بينهما ظل في حيز الصمت، وعرضه للإشاعة يتم فيه تبني مروية تميل إلى تبني "عدائية" من البردوني ضد المقالح، والعكس قائم أيضاً، ولكن في العموم لاشيء علني يؤكد أي من ذلك أو يسببه إذا كان حاصلاً فعلاً. يبدوا الأمر كامناً بشكل كلي في "التزاحم" الضمني بين الاثنين على الأبوة الشعرية "الحديثة" في اليمن، ومن هو الأكثر حضوراً على المستوى العربي، والكثير من هذه التفاصيل. وتصبح الإشاعات بذلك حاصل ضرب موقع واحد في المقدمة لا يتسع لاثنين من الكبار بالضرورة.
نشرت في مجلة ابواب اليمنية