الاثنين، 30 يونيو 2008

«شاهين» المخرج الذي جعل من السينما موضوعاً مثيراً باستمرار


ماجد المذحجي
توفي يوسف شاهين. ذلك بالتأكيد ليس حدثاً عابراً حين يتعلق بشخص أحدثت تجربته فرقاً جوهرياً في مسار السينما في مصر والعالم العربي. إنه مخرج مصري، واقعي وتجريبي مُفارق، ذو مزاج فرانكفوني، وصاحب علاقة صاخبة ومتناقضة مع أمريكا، ناقش موضعات "محرمة"، وتحدث عن التناقضات، وامتلك حساسية ورؤية فنية استثنائية وطموحة كسرت نمط الصورة السينمائية المعتادة ذات الاتجاه الكلاسيكي.
ويمكن القول بالتأكيد إنه آخر جيل الرواد السينمائين المصريين الكبار، الذين أرسوا السينما المصرية في الواجهة الفنية العربية، وهي التي كانت أيضاً المكون الرئيسي، والوحيد لفترة طويلة، في صناعة مخيال أجيال عديدة في العالم العربي، علاوة على أن أفلام هؤلاء الرواد لعبت دورا رئيسياً في صياغة نمط حياة وثقافة، وكرست تصورات في السياسة والهوية والحب وغيره لفترة طويلة.
لقد ارتبط اسم يوسف شاهين بتجربة ذات مستويات متعددة. وكان متميزاً بصناعة أفلام مُغامرة شكل الكثير منها تجربة مثيرة في الثقافة العربية، واستنفرت نقاشاً واسعاً حولها. لقد كان، في أحد مستويات تجربته الكبيرة، رائداً في صناعة أفلام واقعية استجاب فيها الفن للوظيفة الاجتماعية النقدية دون استغراق ثقيل أو أيديولوجي أو هجائي، ليصبح بذلك فيلم "العصفور" وفيلم "الأرض"، مثلاً، من أهم الكلاسيكيات السينمائية العربية، وليغادر شاهين بعد هذه التجربة الواقعية المهمة التي قدمها في العديد من أفلامه، والتي يستعيدها بعد ذلك في آخر فيلم يخرجه، "هي فوضى"، بالتعاون مع خالد يوسف، نحو تجريب واسع في الشغل السينمائي لا يمكن تجاوزه أبداً.
أخرج شاهين أفلاماً تضع الرؤية الشخصية الجريئة والحدث التاريخي في قلب النقاش العام، مشتغلاً عليها بكاميرا سينمائية تتحسس الصورة والشخصيات بشكل مختلف، وخارج الصورة النمطية لها، كان ذلك مثلاً حاضراً تماماً في فيلم مثل "وداعاً بونابرت". وعلاوة على ذلك، كانت لديه اشتغالات سينمائية تميز فيها باستعادة "متفانية" لعلاقته بمسقط رأسه ومدينته الكوزمبولوتية الأثيرة، الإسكندرية، التي عاشت الكثير من التحولات طوال قرن، ليسرد فيها سيرة الفتى الذي كان فيها بمستويات مختلفه تتداخل أيضاً مع سيرة "البلد" وتحولاته، وتغيرات العلاقات الاجتماعية في علاقتها مع الآخر. ذلك يمكن إيجاده مثلاً في "إسكندرية ليه؟" و"حدوتة مصرية"، و"إسكندرية كمان وكمان"، وفي عدد من الأفلام التي حضر فيها هذا النمط من التناول لشاهين.
لقد تميز شاهين بجرأة شديدة في اختيار موضعات السينما التي قدمها، فأدخل للمادة السينمائية شخصيات الحكايات الدينية بشكل جريء وخارج سياق العلاقة الكلاسيكية المعتادة والحذرة التي ربطت بين السينما المصرية والعربية مع أي موضوع ذي طابع ديني أو يتعامل مع "الحكايات" الدينية، حيث كان أي توظيف، أو استعادة، للحدث الديني التاريخي يقع في الطابع التمجيدي عادةً، وبأدوات ورؤية فنية وثقافية فقيرة لا تجرؤ على الخروج على المروية الرسمية الدينية بأي شكل كان. غامر هنا شاهين تماماً ليجعل من حكاية النبي يوسف مثلاً موضوعاً لأحد أكثر أفلامه إثارة للنقاش والجدل: "المهاجر"، حيث يقوم في هذا الفيلم بأنسنة الشخصيات تماماً، ويمنح سياق المروية الدينية بعداً بشرياً يستعيدها من "تعالي" المقدس، ويضعها في سياق العلاقات الإنسانية بغرائزها وتناقضاتها ودفئها. وفي ذروة موجة التكفير والإرهاب الذي استهدف الثقافة والفن والإبداع في العالم العربي، قدم شاهين فيلمه الشهير "المصير" كرسالة فنية احتجاجية عميقة على مآل الأمور. تناول العمل محنة الفيلسوف الأندلسي "ابن رشد"، والعلاقة المتناقضة التي جمعته بالسلطان، وصراعه مع المجموعات الدينية المتشددة آنذاك. الفيلم استعاد تواطؤات السلطة مع المتطرفين في مواجهة المثقف والتصور المستقل لدوره، وهو ما يذهب المجتمع ضحية أكيدة له، ليسحب على الواقع القائم الآن، مديناً بذلك هذه التحالفات الفاسدة التي عززت الفكر المتطرف وعادت التعدد الاجتماعي والثقافي. الانشغال بهذا الموضوع انسحب على تجربة سينمائية أخرى لشاهين، ولكن ضمن رصد أوسع لفكرة العلاقة مع المختلف، كان ذلك في فيلم "الآخر" الذي انشغل بتتبع التناقضات في العلاقة مع الآخر الذي تقع امريكا في قلبه بالنسبة للعالم العربي، وهو ماتضمنه أيضاً أحد أفلامه الأخيرة، "الإسكندرية/ نيويورك" الذي كان مصير المدينتين المتعددتين مادة اشتغال سينمائي نوعي تداخلت فيه السيرة الذاتية لشاهين مع رؤيته المتناقضة لأمريكا النموذج والخصم!
يُصنف جزء كبير من تجربة يوسف شاهين بما يطلق عليه "سينما المؤلف"، وهو نمط من العمل السينمائي الذي يميز تجارب مخرجين سينمائين مثقفين، تهيمن فيه اختيارات المخرج ورؤيته الثقافية الفنية على موضوع الفيلم بشكل تهمل فيه الشراكة التقليدية مثلاً مع "السيناريست"، ويكون فيها استقلالية عالية تجاه شروط الإنتاج يفرضها اسم المخرج الكبير، ليصبح المخرج كاتباً لسيناريو الفيلم على الأغلب، وهو شكل من الاشتغال السينمائي اشتهر بها مخرجون كبار مثل الياباني اكيرا كيرا ساوا، والايطالي فيليني، وغيرهما.
امتاز شاهين أيضاً بكونه استطاع أن يوسع دائرة الإنتاج التي تعامل معها، مفسحاً الخيار لنفسه لتعامل مسترخٍ مع شروطها التي تغلق الخيارات أمام المخرجين في العادة، حيث لم يخضع لشروط الإنتاج المصرية فقط، واستطاع بشكل مبكر مثلاً أن يحصل على إنتاج عربي لأفلامه، مثل إنتاج الجزائر للفيلم الشهير "العصفور"، ولكن كان الأهم في سياق الإنتاج بالنسبة لشاهين لاحقاً هو توفر الإنتاج الأوروبي، والفرنسي خصوصاً، للسينما التي يقدمها. وفي ذلك كان جزء كبير من سر نجاحه العمل بموضوعات كان من الصعب توفير تمويلات محلية لها، وخصوصاً أن نمط اشتغاله السينمائي كان يجد تفضيلاً أوروبياً يرى فيه فعلاً فنياً ينتمي جزء كبير منه لمنظومتها الثقافية.
اتسم شاهين بموقف منتصر للحرية في الثقافة والفن والإبداع عموماً، واتسم بخصومته الشديدة مع المتطرفين ومختلف أشكال الوصاية والسلطات الفكرية، وهو موقف في الحريات انسحب على علاقته بالشأن العام في مصر، حيث اتسمت علاقته بالنظام المصري بالتوتر، خصوصاً في عهدي الرئيس مبارك والسادات، ولم يوفر فرصة لنقد الاستبداد السياسي في تصريحاته ونقد المظاهر البوليسية التي تسيطر على الحياة في مصر، وكان متبنياً لتصور مدني وعلماني عن الدولة المصرية وجد في شكل النظام الحالي الحاكم فيها خصماً شرساً له.
يُمكن تأكيد أن يوسف شاهين استطاع أن يخلق تأثيراً فريداً في مسار السينما العربية، ورفع السقف كثيراً على صعيد الموضوعات والأسلوب والموقف. كما استطاع بشكل استثنائي أن يجعل من أفكار نخبوية مادة سينمائية تعاطى معها جمهور واسع لأول مرة، وجعل من السينما فاعلاً نشطاً في إثارة النقاش العام حول موضوعات مغلقة. لقد استطاع إعادة النظر في أدوار السينما التقليدية على المستوى العربي، ومنح الكاميرا حساسية فنية لم تكن معتادة قبله في المنطقة، وشكل علامة فارقة على صعيد الأسلوب والموقف والرؤية الفنية والثقافية يصعب تماماً تجاوزها الآن.
نشرت في صحيفة النداء

الخميس، 5 يونيو 2008

اليمن في مربع الحل الأمني


ماجد المذحجي
يُحال تقدير مسار الأمور في اليمن من سيء إلى أسوأ باستمرار، ويتصدر البلد واجهة المتابعات الإخبارية في كل مكان، باعتباره محل أزمة مستمرة على أكثر من صعيد. ويبدو اختناق اليمن بمشاكل حقيقية منذراً بتحولها لدولة فاشلة بامتياز، إن لم يكن قد أصبح كذلك فعلياً، ولم يعد التعويل المعتاد على قدرات استثنائية لرئيس الجمهورية بالتدخل في اللحظة الاخيرة لإنقاذ الأوضاع محل رهان أي طرف على الإطلاق!
تتدهور الأوضاع بشكل مخيف. فالتحرك السلمي بالجنوب تم ضربه بقسوة شديدة، وهو يعيش حالة هدوء (مؤقتة) تنذر بالأسوأ. وحرب صعدة تفجرت للمرة الخامسة، لتنتقل هذه المرة إلى عمران وريف صنعاء. كما عاشت العاصمة لأول مرة على وقع المعارك مع "الحوثيين"، مما جعل الحرب أقرب للكل ومعلومة للجميع بشكل أوضح مما سبق. علاوة على ذلك، تقطعت أوصال العاصمة بنقاط أمنية في كل مكان، ما جعل الناس يتعايشون بشكل يومي ومباشر مع إحساس "النظام" بالذعر. يسبق ذلك إعلان "القاعدة" عن جيل جديد أكثر عنفاً وعدوانية، استطاع بشكل متلاحق أن يضرب الكثير من المصالح الغربية في اليمن بشكل مؤذٍ، مما أدى إلى انعدام ثقة دولي حقيقي بالدولة وبإمكانية استقرار الوضع الأمني. وما عقد الأمر أكثر أنه جيل لم يستجب للمساومات الأمنية (المعتادة) التي تتم بها إدارة العلاقة مع "القاعدة". العلاقة مع أمريكا أيضاً سيئة بسبب الأخطاء الكثيرة في إدارة ملف الإرهاب بشكل أساسي، ولإحساس أمريكا بتعمد اليمن ابتزازها في قضايا مطلوبيين إرهابيين كـ"البدوي" و"البنا"، مما جعل العلاقة بين الطرفين تصل إلى أسوأ أحوالها منذ فترة طويلة. انعدم الديزل الحيوي بالنسبة للمزارعين والكثير من السكان بسبب التهريب، وأسعار المواد الأساسية ارتفعت للكثير من الأسباب، والنقمة الشعبية عالية بسبب كل ذلك، رغم عدم انفجارها حتى الآن والصمت الذي تبدو عليه، وهو ما يرتب قلقاً إضافياً. كما أن المتبقي من الموعد الزمني للانتخابات البرلمانية القادمة أصبح أقل من عام، بينما كل شيء غير مُستقر، ومناهض للدولة، وعدائي تجاه الحزب الحاكم، ويعاكس إمكانية تنفيذ فعلية للوعود مرتفعة السقف التي أعلنها الرئيس في إطار تنافسه مع مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، علاوة على أن عدم الاتفاق السياسي مع المعارضة حتى الآن حول تشكيل لجنة الانتخابات التي انتهت فترتها، يجعل شرعية أي نتائج قادمة محل طعن واضح من قبل الجهات الدولية على الأقل.
تهمل "الدولة" واجباتها بشكل واسع، وتبدو مربكة ولا مبالية أيضاً. وفي قضية رأي عام أخيرة، حصدت اهتماماً وتعاطفاً واسعاً، كواقعة إحراق متسللين يمنيين فقراء على يد أفراد أمن سعوديين، تبدو "الدولة" طرفاً محايداً بشكل غريب ومستفز للجميع، بينما تلجأ في مستوى آخر، وبشكل تصعيدي، إلى إيقاظ تحالفها النائم والخطر مع علماء دين أصوليين، مثل الزنداني والذارحي، لسحب المجتمع إلى مواجهة جديدة تتعلق بالحريات العامة والشخصية، دون تفكير بالتوترات العميقة التي سيثيرها تنفيذ اقتراح أهوج مثل هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علاوة على أن تعزيز النفوذ العام لهؤلاء "الأصوليين" سيعقد صلة الناس بالدولة التي أصبحت في مواجهتهم مولداً لأدوات القمع والتسلط الأمني والديني فقط، كما سيذكرهم ذلك تماماً بمناخ حرب 94 وما بعدها حين أغلقت الأماكن العامة أمام الناس بسبب تسلط "المطاوعة" عليهم، وسيطرتهم الضمنية على الفضاء العام للمدن في ذروة تحالف الدولة مع "الأصوليين" حينها. كما أنه أمر إذا تم سيكون سبباً إضافياً لتكريس مناخ طارد للاستثمارات والسياحة، ويحول البيئة اليمنية إلى محل تخصيب مغلق للتطرف الديني وإنتاج الإرهابيين، وهو ما لا تحتمله سمعة اليمن السيئة بالأساس.
 في كل ذلك تتراجع خيارات "الدولة" في تعاطيها مع هذه المشاكل و"التفجرات" نحو المربع الأمني الضيق. وبشكل لافت تتصدى الأجهزة الأمنية ومؤسسة الجيش لإدارة المشاكل والحياة اليومية، ويتمدد الحل الأمني في الفضاء العام بشكل سريع، علاوة على اتساق كل ذلك مع الغياب التام لأي رؤية سياسية منفتحة، تسندها قاعدة التشاور الوطني الواسع، للتعاطي مع الأزمة الوطنية الشاملة التي تعصف بالبلد.
 تختفي بشكل متسارع الملامح المدنية المنفتحة للدولة، لتحل محلها صبغة بوليسية قاتمة تفصح عن إعادة بناء هوية شمولية عدوانية تريد قسر المجتمع والسياسة في موقع الإذعان فقط. وبشكل متسارع يتم إلغاء مسار ضعيف، بالأساس، من التحول السياسي نحو الديمقراطية في اليمن. وضمن أي قراءة سريعة للمشهد الحالي، تبدو الحريات والحقوق السياسية والمدنية هي الضحية الأولى لأولوية الحل الأمني الذي يتم اعتماده بكثافة في الاستجابة لأي احتقانات سياسية ومعيشية تتكاثر بسبب فشل السياسة والتنمية في البلد.
اليمن واقعة في مصيدة أمنية حقيقية. ودون هذا الخيار، العنيف والعدواني، الذي تعتمده "الدولة"، لا توجد معالجات أخرى. الأولوية الأخرى القائمة تُمنح لإعادة بناء تحالفات سياسية قديمة مع "الأصوليين"، لإضعاف الممانعات المدنية "القليلة" القائمة ضد عودة الصيغة الشمولية لدولة ما قبل الوحدة، فقد وفر المسار الضعيف من التحول الديمقراطي حسنات قليلة، منها بناء مصالح للكثير من الأطراف في وجود دولة مدنية وتعزيز الديمقراطية وحماية الحريات. ويتصدر الصحفيون، والنشطاء السياسيون، ومنظمات المجتمع المدني، حماية هذه المصالح الجديدة في اليمن، وهم -على قلّتهم- يشكلون أداة ضغط حقيقية وغير مألوفة على "دولة" اعتادت التعاطي مع أصحاب مصالح قديمة في البلد، مثل القبائل ومراكز النفوذ التقليدية الأخرى. وحتى الآن تبدو أولوية الحل الأمني هي تفتيت المصالح الجديدة والاصطفاف التي حولها، بما ييسر لأصحاب الشأن إدارة الأمور كما اعتادوا عليه. لذلك يمكن تفهم "الشراسة" ضد "المدنيين" الجدد، وكل ما أتى في هذا السياق، مثل "التنكيل" المستمر بالخيواني، واعتقال ومحاكمة باعوم والمقالح والغريب وغالب ومنصر وآخريين. علاوة على سحب التراخيص من الصحف، والتضييق عليها، وإغلاق المواقع الالكترونية، واعتقال الناشطين المدنيين والسياسيين، ومضايقة منظمات حقوق الانسان، ومنع وتفريق الاعتصامات والتظاهرات بالقوة، وإشاعة أجواء امني مستنفرة في البلد لتعزيز "الذعر" العام، بما يخلفه ذلك من ميل واسع للصمت، وهو ما يبدو مطلباً عزيزاً عليها حتى الآن.
نشرت في صحيفة النداء