السبت، 12 سبتمبر 2009

الحجرية.. التباسات السياسة والايديولوجية


ماجد المذحجي
أطلقت ثورة 26 سبتمبر في لحظتها الأولى وعدا "مثالياً" بالتغيير يصبح الناس به في موقع "متساوي" على كافة المستويات، بما يتيح فتح دائرة الحكم المغلقة على تمثيل اجتماعي و"مذهبي" واحد أمام الجميع لأول مره في التاريخ الحديث لليمن، شمالاً على الأقل. جراءة هذا "الوعد" الضمني "أغرت" أفراد ومناطق كثيرة في البحث عن ادوار جديدة خارج "التصنيفات" التي اعتادوا على الحضور ضمنها سابقاً، باعتبارهم "رعية" مثلاً، وكان أبناء المهاجرين والفلاحين وملاك الأراضي الصغار من أول من تبنوا هذا "الوعد" واندرجوا ضمن الحماسة التي خلفها. ينتمي جزء كبير من هؤلاء إلى منطقة الحجرية التابعة لمحافظة تعز، الخزان البشري الكبير بأغلبية فلاحيه وأحوال اقتصادية متردية ونسب هجرة مرتفعة قياسا للمناطق الأخرى في تلك الفترة، وهي المنطقة التي يمكن أن يقال بأنها أبناءها أكثر من شارك منذ ذلك "الوعد"، وفي ذلك "التوقيت الثوري" الذي عصف باليمن، في إنشاء تصورات جديدة للبلد: في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والثقافية. 
             
ثورة 62 وأعباء ادوار جديدة
أدخلت ثورة 62 تغييرات عميقة في وعي الناس بأنفسهم، وأكسبتهم تقدير جديد لما يمكن أن يكونوا عليه والمزايا التي يمكن اكتسابها، وعقب قيامها شارك أبناء الحجرية في صياغة ملامح النظام الجديد في اليمن ولكن بأساليب مختلفة. لقد انتمى الكثير من أبناءها إلى التصورات الجديدة في السياسة السائدة في العالم آنذاك، وانتمى الكثير منهم إلى "السرديات" الإيديولوجية الشائعة في تلك الفترة، القومية بشقيها: البعث وحركة القوميين العرب، والماركسية، وبشكل محدود الإيديولوجية الإسلامية في تعبيرها الاخواني. هذه الانتماءات التي ميزتهم بسبب اتصالهم بالعالم الخارجي أكثر من غيرهم نتيجة التعليم والتجارة وغيره، أدت إلى إدخالهم متغيرات جديدة في حقل السياسة المحافظة بشدة في اليمن، والذي وان اسقط "الإمام" لم يكن ليقبل باختلالات في التمثيل بالسلطة تستبعد القوى التقليدية النافذة، والتمثيل الطائفي والمناطقي الحاضر ضمنياً في صيغة الحكم بعد الثورة والتي لم يجرؤ احد على تغييرها فعلياً والاقتراب من توازناته الخطرة. التحق الكثير من أبناء الحجرية في مؤسسات "الدولة" الناشئة باعتبارها إطار تعبير جديد يكفل تعريفهم لأنفسهم خارج التعريفات الشائعة التي تنتمي للمنطقة أو القبيلة وثقل الجهة التي ينتمي لها الفرد، وحضروا بكثافة في مؤسسة قوة جديدة تتشكل في تلك الفترة وتكتسب أهمية متزايدة: الجيش. بدا الجيش يشكل أداة نفوذ جديدة مؤيدة بقوة فعلية متزايدة على الأرض يمكن أن تساهم في تغيير الإحداثيات برمتها، وشكل انتماء "الحجريين" بأيديولوجياتهم الجديدة اختبار قوة يمكن أن يفك سيطرة النافذين التقليديين، علامات الخطر بدأت مؤشراتها من علاقتهم بممثليهم التقليدين في مؤسسة الحكم، حيث يحضر تمثيل عائلات إقطاعية كبيرة من المناطق الشافعية أو مناطق "منزل" بمقابل الأخريين "الزيود" أو أصحاب "مطلع" من القبائل، حيث رفض، وتظاهر، الكثير من الطلاب والنشطاء السياسيين، "الحجريين" شكلوا الكتلة الأكبر منهم، ضداً على الأستاذ النعمان مثلاً، الممثل الضمني عن الشوافع أو اصطحاب تعز والحجرية في صيغة الحكم في تلك الفترة باعتباره "رجعي" حينها، لقد شكل ذلك أول رفض علني، وبشكل مدوي، لصيغ التمثيل المقرة في اليمن، وفي ذلك نقض خطر لتصور آمن ومتراض عليه يحكم البلد حينها. تمدد هذه التعبيرات الجديدة للجيش، مؤسسة القوة الحديثة والأهم، يمكن أن يحدث فرق خطر. بسبب ذلك حضرت أحداث أغسطس 1968 حينها بشكل ملح ولايمكن تأجيله خشية من الاسوء لاحقاً، حيث اتخذ قرار تم تنفيذه بتصفية الإيديولوجيات الجديدة في الحياة العامة وبالأخص في مؤسسة الجيش، باستثناء البعث المتحالف مع الصيغة المحافظة حينها، وكانت تلك الإيديولوجيات مقترنة بأبناء الحجرية ضمنياً، فشملت التصفية الاثنين بدون تمييز، وهي تصفية فعلية ضرب فيها بدموية الكثير من الضباط المهمين المنتميين للحجرية، وحدث بسببها لاحقاً ما يشبه "الفلترة" لحضور أي "نفوذ" أو تواجد فعلي لأبناء هذه المنطقة في مؤسسة الجيش، علاوة على اعتقالات واسعة للكثير من النشطاء السياسيين من الحجرية ومن مناطق أخرى كثيرة، كان معظمهم إجمالا ينتمون لما يعرف بـ "اليمن الأسفل" من أولئك الذي استجابوا فعلياً لوعود التغيير التي جلبتها ثورة 62.

ضريبة الإيديولوجية
استمرت الإيديولوجيات مقترنة بأبناء الحجرية، ومناطق وأفراد أخريين بالضرورة، ولم تنجح أحداث أغسطس في ضرب نشاطهم السياسي المدني التي تأسس بناءاً عليها، إذا استثنينا الجيش بالضرورة، وتأسست أحزاب سرية في شمال اليمن شكلوا ضمنياً كتل كبيرة فيها، مثل الحزب الديمقراطي الثوري وحزب العمل والتنظيم الناصري والبعث، وشاركوا بنشاط لاحقاً في الجبهة الوطنية الديمقراطية التي شكلت ابرز مواجهة مسلحة مع النظام الحاكم المحافظ في الشمال، كل ذلك أدى إلى وضع تعز، والحجرية خاصةً، تحت عين أمنية شديدة الانتباه وترت علاقتهم بالنظام باستمرار، كما أدى إلى وجود تصنيف عام وضع المنطقة في إطار "معارض" بشكل دائم بما يرتبه ذلك من أشكال "عقاب جماعي" ذات طابع سياسي أو تنموي أو امني. بمستوى أخر ارتبط الكثير من "الحجريين" بتصنيف ضمن النشاط السياسي كانوا فيه ذوي علاقة بالأفكار أكثر من المواجهة في "الميدان"، وخصوصاً في فترة "الجبهة"، حيث تعمل عبء العمل المسلح في ذروة النشاط العسكري أبناء المناطق الوسطى وشرعب، بينما كانت الحجرية خارج مناطق الصراع المباشر، وهو ما رتب "نقمة" صامته لاحقاً على أبناء الحجرية تبعاً لذلك أسقطت الملاحقة الأمنية التي تعرضوا لها من الحساب، حيث كان النظر للكلفة المباشرة للصراع هو الأمر المحسوس بالنسبة لأولئك الذي قاتلوا ودفعت مناطقهم ثمن محسوس وقاسي تبعاً لذلك، وهو ما لم "تتذوقه" الحجرية برأي الكثير من متضرري فترة الصراع تلك.

تمدد كتلة سكانية كبيرة
تمثل الحجرية الكتلة السكانية الأكبر في تعز، وفي ظروف متعددة أخرى ما تشكل تصور عام ألغى المسافة بين الاثنتين وطابقهما، وجعل من الأولى تعريفا للثانية، فيصبح التعزي "حجري" بالضرورة، وليس العكس كما هو مفترض! انتشار أبناء هذه المنطقة في كافة مناطق اليمن نتيجة هجرة داخلية نشطة "لطلب الرزق"، جعلها أكثر المناطق حضوراً على المستوى الوطني، وعرضها تبعاً لذلك لأعباء انطباعات مختلفة، تم بناءها اعتماداً على النسق الثقافي في كل منطقة تواجدوا فيها، حيث يتم تصنيفهم، إيجاباً أو سلباً، تبعاً لمستوى تقاطعهم مع منظومة القيم الاجتماعية والثقافية التي تحدد قدر الأفراد حيث يكونون. تخفف أبناء الحجرية من فكرة "العيب" الحاضرة بكثافة في مجتمع تسيطر على قيم محافظة، وقيم تقرن "الرجولة" و"القوة" بحمل السلاح عادةً، ترى "الفلاح" مجرد "رعوي" قياساً بالتفضيل الذي يُسبغ على "القبيلي" الذي يصبح حتى البيع والشراء انتقاصاً من قدره، وهو شأن استمر حتى فترات قريبة في اليمن قبل أن تقوم أرباح التجارة وفكرة الثراء بتغييرات مهمة في العادات ومنظومات القيم القبلية في اليمن لم تقرأ بعد. ذلك أدى إلى "انطباع" أفكار سلبية عنهم بمستوى ما، كان اهتمامهم بها منخفضاً على الأغلب لصالح أولوية "الحاجة" والتعامل مع ضرورات "الرزق"، عوضاً عن العودة إلى مناطقهم حيث يحضر فقر شائع، ولا توجد فرص عمل في أراضي زراعية محدودة قياساً لعدد السكان الكبير، وأشكال "شراكة" مجحفة عادة بين "الرعوي" وملاك الأراضي في مناطق الحجرية.

شبه احتكار للوظيفة العامة
التحق أبناء تعز والحجرية بشكل كثيف في مؤسسات الدولة المختلفة، وشكلوا الجزء الأكبر من قوام جهازها الوظيفي بكافة مستوياته، ذلك مرده ارتفاع نسب التعليم في بلد ترتفع في نسب الأمية عادة، وبشكل ما بدا حضورهم ذلك ذو طابع احتكاري للوظيفة العامة قياساً بالفئات الاجتماعية الأخرى التي ينخفض عددها قياساً بهم، ذلك وان كانت أسبابه طبيعية بسبب التعليم والتأهيل يثير استنفاراً عاماً، فحضور "صاحب الحجرية" كموظف أو مدرس أو مهندس أو طبيب في الأجهزة الحكومية في مناطق ريفية مختلفة عادةً، وتواجد الأخريين بشكل اقل قياساً بهم يخلق حساسية من احتكارهم للوظائف، تفسير الأمر عادة لا يكون بسبب كونهم متعلمين، لوجود ندرة في المؤهلين علمياً في الفترات السابقة قياساً بالوفرة في "الجامعيين" من كل اليمن بالعقدين الأخيرين مثلاً، بالنسبة لمن يتلقون تمددهم في الوظيفة العامة، يعزى الأمر في مستوى شائع إلى كونهم أذكياء و"حذق"، والوصف هنا يُغلب طابع "الفهلوة" عليهم بسلبية ذلك، ولا يحضر باعتباره تنويهاً ومديحاً. بالطبع لم يحضروا في المؤسسات والأجهزة العامة للدولة ضمن مستويات الصف الأول، حيث حظر الانتباه الأمني تجاههم ذلك وخصوصاً في فترات كانت التقييم الأمني معيارياً بالنسبة للالتحاق بجهاز الدولة وللتقدم الوظيفي، ولكنهم استطاعوا أن "يهيمنوا" على المواقع التنفيذية ومفاصل الجهاز الوظيفي بشكل معين. هذا الأمر الذي تم تلقيه بسلبية في مستوى واسع قابلوه بعصبية من نوع ما، يمكن وصفها بعصبية المتعلمين، حيث شكلت تلك العصبية ضمانة من نوع ما في إدارة توازنات حضورهم المليء بالالتباس على المستوى العام في ظل عصبيات أخرى قوية مقابل مؤيدة بأسباب القوة المباشرة والعارية ولكنها قوة تتميز عادة بالفجاجة والافتقاد للحساسية وتثير الاحتقان والضجيج، بينما أداروا هم تعبيرهم عن حضورهم العام و"معاركهم" بصيغة تجعلهم ذوي قوة ناعمة ولكنها قادرة على إحداث فرق مستمر بأقل قدر من لفت الانتباه. 

صورة ملتبسة جنوباً
شكلت الحجرية "ريف عدن" الرئيسي بشكل باكر في بداية القرن العشرين، إلى جوار "أرياف" أخرى بالطبع، وحضروا كـ"أصحاب حرف" وعمال بشكل مبكر في المدينة الجنوبية الأكبر، ليصبحوا تبعاً احد الأطراف الرئيسية فيها ولديهم مصالح واسعة انضموا لحمايتها للعمل "الفدائي" ضداً على البريطانيين والمشاريع الأخرى التي تمتلك تصوراً أخر لعدن، الحضور الباكر في الإطار الوطني قبل الاستقلال شكل رافعة لأدوارهم السياسية اللاحقة بعده، فكانوا جزءاً أساسياً من الكتلة الإيديولوجية ضمن الجبهة القومية، وشكل عدد من رموزهم ابرز أوجه السياسة والصراعات في "الجنوب الماركسي". انعكست ادوار ومواقع هؤلاء الرموز على صورة أبناء الحجرية،"الجباليه" كما كان يطلق عليهم في عدن، حيث تم تلقيهم بالنسبة للكثير من التمثيلات الجنوبية كـ"منتفعين" و"انتهازيين" ضمنياً يستغلون الحزب، وعززوا مواقعهم في النظام اعتماداً على إثارة النزاعات بين الأطراف الجنوبية الجنوبية، كونها الوسيلة المثلى باعتبارهم طرف بدون "عزوة" قبلية تعززه في النزاعات على السلطة! ليمتد هذا التصور حتى الان، ويحضون بالنصيب الأوفر من خطاب الكراهية الذي أنتجته الأحداث في الجنوب ضداً على الشماليين، فهم "فرس" و"يهود اليمن"... الخ. لقد شكلت صورت أبناء الحجرية في الجنوب محل التباس شديد تداخل فيها موقع بعض ممثليهم السياسي والوظائف الأمنية لبعضهم مع الصراعات الدموية التي حدثت، لينسحب ذلك إلى تقدير متذبذب لهم ولأداورهم ينتقل في وصفهم من كونهم المتعلمين والمدنيين الأقرب لهم، إلى وصفهم بمثيري النزاعات "اللئام" والذين يتحملون مسؤولية كل ما حدث للجنوبيين!
نشرت في مجلة أبواب اليمنية