الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

عن «الحمرا» العالقة بين زمنين!


ماجد المذحجي
لا يمكن تلقّي الحمرا عادةً من دون إطارها البيروتي. تحضر هذه المدينة بأعباء الذاكرة وتناقضاتها، و«أهلها» يراوحون بين وطأة الحنين ومحاولة التعافي منه! بالارتباك الذي يستدعيه طبعاً التقاطع مع طبقات من التواريخ العاطفية والإيديولوجية والطائفية، تراكمت فوق بيروت من دون إعادة قراءة! وفي ذلك تماماً، يمكن قراءة الحمرا باعتبارها محلاً للانقطاع والوصل مع «الزمن الجميل»، وفي كون «جمهورها» متورطاً في رثائيات يومية لها، علاوة على إعادة التكيف المستمر وخلق تاريخ شخصي مع أي حيز جديد فيها. كل ذلك في مواجهة عجز المكان عن تقديم وعود باستعادة قديمه المحبوب ذلك، وعدم قدرة «عشاق الحمرا» على الخلاص منها والتوقف عن ندبها. هكذا إذاً، تصبح مسابقة فوتوغرافية من قبيل « لكم حمراؤكم ولي حمرائي» ـــ قدمت برعاية جهات متناقضة بين صحيفة «السفير» ذات الإرث القومي واليساري القريب من مزاج الحمرا القديم، وتلفزيون «المستقبل» الذي يمثّل واجهة إعلامية لرأس المال «السني» الجديد المناقض لما مثّلته من تراث في الاختيارات الأيديولوجية ونموذج التعددية الطائفية ـــــ إفصاحاً عن أزمة هويتها كمكان وذاكرة، وعن ورطة الحنين إلى ذلك المتخيّل الذي لا ينتهي عن الحمرا.
تبدو الحمرا عالقة بين زمنين: بين قديم كانت فيه ساحة يومية للنضالات وتقديم البديل الجذاب من الخيار الطائفي اللبناني واصطفافات الميليشيات، ومحلاً لعلاقات وأفكار مُفارقة شكلت إرثاً ذا خصوصية في بيروت، وبين جديد تحاول فيه الالتحاق بمزاج جديد إيقاعه أسرع ولا يتم فيه التورط بكلف ثقيلة، وحيث تحصيل «الأرزاق» هو واجهة الحمرا لا حماية الاختيارات النضالية القديمة أو تقديم نماذج مفارقة! وبين جيلين، الأول كان جزءاً من إرثها وشريكاً في حماساتها القديمة تستولي عليه خسارة ذاكرته الشخصية في المكان وتستولي عليه أيضاً الضرورات اليومية. وآخر جديد وشاب يستهويه ذلك الإرث العاطفي للحمرا الذي لم يختبره فعلياً لكنّ الحماسة تأخذه بعيداً في استدعائه والتنكيل بالمآل الجديد الفاقد للمذاق الذي صارت عليه... تولد الالتباسات ويصبح على المكان أن يدفع الثمن العاطفي لعجزه عن تقديم الصورة المبتغاة منه. ويصبح على هؤلاء العشاق الحمراويين حماية ذاكرتهم عبر نسج «فضاءات» كثيفة للحنين. وبين بار مثل «بارومتر»، و«دينامو» وBy The Way، حيث تتزاحم موسيقى زياد الرحباني وصور ياسر عرفات وغيفارا وأنطوني كوين والصفحة الأولى من «السفير» يوم تحرير الجنوب... تولد غابة من التشويش العاطفي لأجيال جديدة لم تحسم اختيارها وعلقت مثل الحمرا بين زمنين!
نشرت في صحيفة الاخبار اللبنانية

الأحد، 22 نوفمبر 2009

كـرامة ناقـصة عـلى الحـدود الشمالية


* بقلم : ماجد المذحجي
حتى الان لم تنجح السعودية في القضاء على ميليشيا الحوثي المتسللة إلى داخل حدودها كما تردد الحكومة ووسائل الإعلام السعودية، ولكنها نجحت في شأن آخر على الأغلب: تحويله من قائد ميلشيا إلى ما يشبه حارس للكرامة اليمنية على الحدود الشمالية، خصوصاً حين تصبح السيادة أمراً ساقطاً من الحسابات الرسمية اليمنية في مواجهة الشقيقة الكبرى كما يبدو عليه الأمر!
يثير هكذا تقدير قدراً كبيراً من الحساسية الرسمية حين يضعها في موقف المتخلي عن اعتبارات الكرامة والسيادة الوطنية، ولكنه ضمنياً ينسحب على إحساس الكثير من اليمنيين مازالت السعودية تحضر بالنسبة لهم كطرف غير نزيه فيما يتعلق باليمن، وحيث هي المتصرف السري السيء بمصير هذه البلاد لفترات طويلة كان فيها طموح اليمنيين ببلد محترم وذو استقلالية في قرارها ومصيره يجابه بالنفوذ السعودي المسكون بوصية مؤسسها عبدالعزيز لأولاده "خيركم من اليمن وشركم من اليمن".
لم توفر السعودية أسباباً لغير هكذا تقدير في إدارتها على معركتها على الحدود اليمنية وداخلها، حيث يصبح الحق السعودي في التصرف لحماية نفسها متعدياً أي اعتبارات، وبسهولة يصبح من حق قواتها أن تقصف دون تمييز، وبأكثر الأسلحة حداثةً وفتكاً ودماراً، القرى اليمنية متسببة بمقتل الكثيرين دون أي تمييز كانوا حوثيين أم مواطنين مغلوبين على أمرهم، وحين يصبح من حق القوات البحرية السعودية حصار ميناء ميدي اليمني، ضمن المياه الإقليمية اليمنية، لاعتبارات أمنية تتعدى الحصار لاحقاً لتصل إلى قصف قوارب الصيادين ومؤخرة الميناء بالطائرات دون أدلة على أي تهريب للسلاح وفق التبرير الشائع، وهكذا فأن الحاصل في كل ذلك حين يخص السعودية آن لا كرامة لليمنيين حتى في أرضهم بمواجهتها!
تتحدث شكاوي كثيرة، وإشاعات غير مؤكدة حتى الان، عن نقل معتقلين يمنيين من الذين يدخلون تهريبا للعمل للسعودية إلى خطوط المعارك، وعن اعتقالات دون تمييز للاجئين اليمنيين في السعودية، حيث الضرورة كما يبدوا تقتضي وجود أسرى حوثيين يجب توفيرهم بأي طريقه أو ثمن حفاظاً على كرامة الجيش السعودي في معركته الظافرة ضد "المتسليين"، وهنا لا يصبح مهماً التمييز بين مواطنين منكوبين في هذه الحرب أو مقاتلين فعليين، ففي الأخير ينتمي الاثنين لبلد لا يستطيع حماية مواطنيه، بينما يجب حماية الكرامة السعودية بأي ثمن، وهي كرامة يبدو أن وقودها دماء اليمنيين فقط في هذه الحرب.
يزداد الوضع تدهوراً بالنسبة للمواطنين اليمنيين على الحدود مع السعودية، والتي تفاقمت مع دخول الأخيرة طرفاً في حرب صعدة، وعلى الرغم المناشدة المتكررة من منظمات الإغاثة الدولية، كان آخرها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فأن السعودية لا تلقي بالاً للأمر ولا تقدم أي مساعدات فعلية أو تسهل الأمر على قوافل الإغاثة الدولية التي تريد إذناً فقط بالدخول من جهة الأراضي السعودية للوصول للاجئين اليمنيين العالقين، حيث الأمر مرهون بموافقة أمنية من قبلها، وعلينا عقب ذلك أن نشاهد قناة الـmbc وقناة العربية، التي أصبحت أشبه بجهاز تعبوي للجيش السعودي، وهي تتحدث عن تحول مخيمات المواطنين السعوديين إلى أشبة بمدن بمكتملة الخدمات، بينما على الطرف الأخر من الحدود، حيث لا تتعدى المسافة عشرات الكيلومترات فقط، هناك أخريين متروكين في العراء دون حيله، وهم عرضه للموت إما بالقصف أو الجوع أو البرد.
اعتبارات السيادة حين تخص الدولة والكرامة حين تخص مواطنيها تتجاوز فكرة العصبية بمعناها البدائي لتصبح تعريفاً لحضورها بمقابل الآخرين ومدى استقلاليتها وحصانتها تجاه "تغولهم" عليها. والافتقاد للحساسية تجاه كل ذلك مؤشر مفزع على المسافة التي تفصل الناس عن انتمائهم الوطني. وبهكذا حساسية منخفضة حتى الان يُمكن إدراك الحضور الضعيف لهذه الاعتبارات في السياسة اليمنية، والإعلام اليمني، حيث يصبح ما يحدث لليمنيين في الحدود الشمالية شأن لا يخص اليمنيين! وتهيمن السعودية بسوطها الطويل في اليمن مانعة أي شخص من الاقتراب من هذا الشأن، حيث لا يجب التشويش على معركتها للقضاء على المتسللين حتى وان اقتضى الأمر قتل بعض اليمنيين أيضاً وأن بالخطأ.
.................
* نشر في موقع نيوز يمن - الأحد 22 نوفمبر 2009 

الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

هاشم علي... الفنّ اليمني فقد أحد آبائه


ماجد المذحجي
برحيل هاشم علي (1945ـــــ2009) أحد رواد الحركة التشكيلية في اليمن، يغلق الباب خلف آخر رجل استطاع أن يحيا بسلام في بلد أنهكه العنف، وآخر الشهود على حلم اليمنيين بالطمأنينة. انتمى هاشم علي إلى حساسية مختلفة في الفن، حيث الحياة اليومية مختبر جمالي هائل، سوّق ألوانه وخطوطه في خضمه بخفّة نادرة. لم يتبنَّ انحيازات مدرسية في التشكيل، بل تتبّع حدسه. إنجازه اعتمد على المغامرة في الرسم بعيداً عن القوالب الشائعة، فكان رجلاً اقترب كثيراً من القاع والملامح اليومية للناس، من دون أن يجرّه ذلك إلى واقعيّة فجّة. بل صارت لوحته إنشاءً سحرياً للملامح والتفاصيل وخطوط المدن والأبنية في امتدادها اللانهائي.
لقد تسلط «مزاجه» في الرسم على الأجيال اللاحقة في اليمن، وأصبحت السمات التي ميّزته كفنان جزءاً من ورطة الآخرين. قد يكون أحد أسباب تسلّط أسلوب «المعلم»، تلك الهالة التي تحيط به. فهو أشبه بتلك الصورة السينمائية المعتادة عن رجل حكيم ومليء بالمعرفة ومنعزل عن العالم، حيث يسعى مَن يريد التتلمذ على يديه إلى بذل الكثير من الجهد لإرضائه.
استطاع هاشم علي بناء رصيد للتشكيل في بلد لا يستسيغ مزاجه العام هذا النوع من الفنون، بل ينحو الى الاحتفاء بالصوتيات أكثر من المرئي، ويفضّل الشعر والطرب على التشكيل والكتابة السردية. لذا، كان ينبغي لهاشم علي بدايةً أن يبذل الكثير من الجهد، حيث لا ريادة سابقة في هذا الحقل في اليمن. هكذا، اعتمد على مخيلته وحساسيته التي رباها بتراكم الخبرة لا بالتحصيل الأكاديمي واستطاع أن يؤسس أكثر من منجز شخصي في التشكيل. بل
إنّ دوره تعدى ذلك إلى تمرين الذوق العام على بدء استقبال هذا الفن، وشق الطريق حرفياً أمام آخرين أسَّسوا تجاربهم بعدما كان هو ـــــ «المعلم» كما يطلق عليه ـــــ قد شرّع «حرفتهم» وفتح أمامها النوافذ.
بالتأكيد حين يخص الموت هاشم علي، يصبح الأمر تجريداً بشكل ما، أو ربما اختباراً جمالياً آخر، علينا التعايش مع اعتباره احتمالاً آخر للحياة يخــوضه. يصبح ذلك أشبه ما يكون بمقامرة أخيرة للموت، يدخله هاشم بألوانه ويعرضه لاحتمالات النجاة من لونه الواحد وسطوته القاتمة. أدرك هاشم علي الموت قبل أن يدركه هو. استعاد حضـوره في الملامح الغارقة بالتعب، واكتشفه في السفر اليومي للون. اصطاد حضوره غير المرئي على خلفية الحياة، فجعل علاقته به ملهاة مزدحمة بالتفاصيل والألوان، حتى أصبح الموت في حضرة هاشم علي عارياً وناعماً كولادة أخرى...
نشرت في صحيفة الاخبار اللبنانية
http://www.al-akhbar.com/ar/node/166005

السبت، 7 نوفمبر 2009

ما يتبقى من رجل وامرأة


ماجد المذحجي
لاشيء يبدوا أكيداً ويسمح له بالاطمئنان، على الأقل أن مايحدث لن يكبر أكثر من اللازم. إصراره على التماسك أمام غضبها وعدم الرد عليها هو الوسيلة الوحيدة ربما لتجنب تطور الأمور بينهما نحو الاسوء كما اعتقد للحظة على الأقل. يحول نظره نحو مشهد محايد بالقرب من كتلتها الغاضبة، ولكن وجهة يصبح مرآة تشاهد فيه كل كراهيتها: لاشيء يبعث على الغضب أكثر من الحديث عن المغفرة حين تكره المرأة رجل كان حبيبها، وما هو ثقيل أكثر من الكراهية هو الذكريات بين حبيبين يوشكان على ترك بعضهما، تُصبح قطعة واحدة مصمتة، باردة وقاسية، ولاتفعل سوى ترك كل شيء محطماً حولها حين تصبح تأكيداً، لأحدهما على الأقل، على الإحساس بالخديعة.
مضى كل ذلك، انهمكا في الحياة وأصبح كل شيء يومياً أكثر
مرت سنه، اثنتان، ثلاث، أربع
مر الوقت...
ربما تأكدت تماماً عقب ذلك بأنه كانت خدعتها الطويلة، ولم يحاول هو أن يدافع عن نفسه. الفاصل بينهما الان هي بلدان عديدة وشتاءات كثيرة استيقظا فيها بعيداً عن بعض، ولاشيء مؤكد عن الحب الذي كان، على الأغلب انه أصبح سبباً للكراهية فقط.
حين تبادلا الحديث لمرة وحيدة بعد كل تلك الفترة كان بالقرب منها صدفة، في تلك البلد البعيدة التي احتمت بها طويلاً من الذكريات كلها. اخبرها انه في مدينة قريبة منها برسالة على الموبايل ولم يكن أكيداًَ من شيء. اتصلت، ربما كنوع من طمأنة النفس على أنها تخلصت منه، ولكنها بالتأكيد اتصلت: صدره البارد اشتعل دفعةً واحدة وهب كل شيء. ولكنها كانت قد حسمت الأمر، ويبدوا أن الكراهية أصبحت اقل مما تريد، لااكثر من الشفقة على رجل كان لمرة حبيبها ويبحث عن عزاء أخير.
سيلتقيان لاحقاً في مصادفات الحياة، كما يحدث عادةً للكثير من الناس ، وسيكون من السهولة أن يلتقيا في منتصف المسافة كشخصين ناضجين واختبرا الحياة طويلاً، ولكن من الواضح في لحظة كتلك أن ما سيتبقى بينهما هو التكلف، وانه ليس أمراً يسيراً أن يتصالح أي منهما مع الماضي. يُصبح من الملائم أكثر حينها الفرار سريعاً من بعض. تثبيت العينين بعيداً عن الوجه، وجعل التحية محايدة والكلام دون معنى. لن يكون الأمر أكثر من لقاء قصير ومنهك بين رجل وامرأة أحبا بعضهما سابقاً ولم يتبقى شيء لديهما.
نشرت في موقع جدار

الاثنين، 19 أكتوبر 2009

إكراهات القلق: ورطة الكتابة الجديدة في مجموعة لطف الصراري


ماجد المذحجي
تثير الكتابة الجديدة عادة مستويات مختلفة من التلقي، فهي غير قائمة على صورة محددة، أو أسلوبية بعينها، بل يمكن وصفها بشكل من المغامرة الشخصية المفتوحة على احتمالات متعددة، ولذلك يصبح هذا التلقي رهيناً بالموقع الثقافي والنفسي الذي يتخذه صاحبة من المادة، ويتشكل انحيازه تجاهها أو نفورة منها تبعاً لتقاطعه مع الجملة التي يتلقاها. وفقاً لهذه الفكرة الأولية يمكن أن أتحدث عن "كمن يدخن سيجارة طويلة بنفس واحد" ضمن المستوي الشخصي لتلقي لها، وبأقل قدر من الاستعارة للأدوات النقدية.
 يفصح العنوان في أول دلالة يقترفها تأكيداً على الانهماك العالي في الذاتي، حيث يبدو الأمر متعلقاً تماماً بالعالم الداخلي للطف، ويصبح تدخين سيجارة بنفس واحد إيحاء كاملاً بالقلق وبانهماك شخص في التفكير بالكثير من الأشياء التي يريد أن يقولها.
يأتي الإهداء مفتاحاً أخر لتأكيد هذا القلق، وربما الانشغال بأشياء "غير محدده"، حيث اللاجدوى التي يقرنها بفكرة الاهداءات مفتوحة ضمنياً على تأكيد هاجس شخصي لرجل يفكر بكون الأشياء المعتادة، أو المجمع عليها اجتماعياً وثقافياً، لا تستحق الاعتناء، وهي ثيمة أساسية تميز الراوي الذي يأتي سرده من موقع نقيض للأفكار والعادات والقيم والأخلاقيات السائدة مؤكداً بذلك على قلق ورغبة بالتفرد بين "الجموع". وهكذا سيصبح هذا الإهداء مفتاحاً لمنولوج شديد الذاتية، متعدد النبرات يغلق العالم على الفكرة الشخصية ويحاكمه بناءاً عليها، سيستغرق نصوص المجموعة بأكملها بدءاً من الصفحة التالية عليه...
تتناقض الدلالات بين عنوان أول نص في المجموعة "بعيداً في العتمة" وأول جملة في النص "الصباح الجميل" لينسحب ذلك على اشتغال نصي يؤكد فيه الصراري عدم استقراره على تأكيد الانحياز نحو معنى عام يكون فيه الصباح أو النهار جزء من تفضيلاته الشخصية مثلاً، وميله إلى مديح العتمة والليل، حيث يصبح الأخير مرادفاً لذاته التي تنتج عالمها بعيداً عن الضجيج النهاري، ولتصبح الجملة الطويلة التي تميز نسق كتابته امتداد لشخص يحب الليل والأحاديث الحميميه ويغرق في الوحدة والهواجس العاطفية والغضب من إكراهات العالم عليه.
إن كتابة الصراري تأتي بشكل ما كمقاومة لإكراهات القلق وتشكيل صوت بعيد عن المجموع، ولكنها تتورط، وهي ورطة الكتابة الجديدة إجمالاً في حالة "مثاقفة" عالية، واستغراق نظري في إدارة الحوارات التي تشكل الكتلة الأساسية من النصوص بما يجعل جمهورها مغلقاً على جماعة محدودة.
من مزايا هكذا كتابة إنها تبني شراكة بينها وبين القارئ حيث تتمثل الهاجس الشخصي وهو ما يكاد يكون منطقة مشتركة بين الاثنين، وخصوصا قارئ هكذا نوع من الكتابة المحدود فعلياً.

السبت، 12 سبتمبر 2009

الحجرية.. التباسات السياسة والايديولوجية


ماجد المذحجي
أطلقت ثورة 26 سبتمبر في لحظتها الأولى وعدا "مثالياً" بالتغيير يصبح الناس به في موقع "متساوي" على كافة المستويات، بما يتيح فتح دائرة الحكم المغلقة على تمثيل اجتماعي و"مذهبي" واحد أمام الجميع لأول مره في التاريخ الحديث لليمن، شمالاً على الأقل. جراءة هذا "الوعد" الضمني "أغرت" أفراد ومناطق كثيرة في البحث عن ادوار جديدة خارج "التصنيفات" التي اعتادوا على الحضور ضمنها سابقاً، باعتبارهم "رعية" مثلاً، وكان أبناء المهاجرين والفلاحين وملاك الأراضي الصغار من أول من تبنوا هذا "الوعد" واندرجوا ضمن الحماسة التي خلفها. ينتمي جزء كبير من هؤلاء إلى منطقة الحجرية التابعة لمحافظة تعز، الخزان البشري الكبير بأغلبية فلاحيه وأحوال اقتصادية متردية ونسب هجرة مرتفعة قياسا للمناطق الأخرى في تلك الفترة، وهي المنطقة التي يمكن أن يقال بأنها أبناءها أكثر من شارك منذ ذلك "الوعد"، وفي ذلك "التوقيت الثوري" الذي عصف باليمن، في إنشاء تصورات جديدة للبلد: في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والثقافية. 
             
ثورة 62 وأعباء ادوار جديدة
أدخلت ثورة 62 تغييرات عميقة في وعي الناس بأنفسهم، وأكسبتهم تقدير جديد لما يمكن أن يكونوا عليه والمزايا التي يمكن اكتسابها، وعقب قيامها شارك أبناء الحجرية في صياغة ملامح النظام الجديد في اليمن ولكن بأساليب مختلفة. لقد انتمى الكثير من أبناءها إلى التصورات الجديدة في السياسة السائدة في العالم آنذاك، وانتمى الكثير منهم إلى "السرديات" الإيديولوجية الشائعة في تلك الفترة، القومية بشقيها: البعث وحركة القوميين العرب، والماركسية، وبشكل محدود الإيديولوجية الإسلامية في تعبيرها الاخواني. هذه الانتماءات التي ميزتهم بسبب اتصالهم بالعالم الخارجي أكثر من غيرهم نتيجة التعليم والتجارة وغيره، أدت إلى إدخالهم متغيرات جديدة في حقل السياسة المحافظة بشدة في اليمن، والذي وان اسقط "الإمام" لم يكن ليقبل باختلالات في التمثيل بالسلطة تستبعد القوى التقليدية النافذة، والتمثيل الطائفي والمناطقي الحاضر ضمنياً في صيغة الحكم بعد الثورة والتي لم يجرؤ احد على تغييرها فعلياً والاقتراب من توازناته الخطرة. التحق الكثير من أبناء الحجرية في مؤسسات "الدولة" الناشئة باعتبارها إطار تعبير جديد يكفل تعريفهم لأنفسهم خارج التعريفات الشائعة التي تنتمي للمنطقة أو القبيلة وثقل الجهة التي ينتمي لها الفرد، وحضروا بكثافة في مؤسسة قوة جديدة تتشكل في تلك الفترة وتكتسب أهمية متزايدة: الجيش. بدا الجيش يشكل أداة نفوذ جديدة مؤيدة بقوة فعلية متزايدة على الأرض يمكن أن تساهم في تغيير الإحداثيات برمتها، وشكل انتماء "الحجريين" بأيديولوجياتهم الجديدة اختبار قوة يمكن أن يفك سيطرة النافذين التقليديين، علامات الخطر بدأت مؤشراتها من علاقتهم بممثليهم التقليدين في مؤسسة الحكم، حيث يحضر تمثيل عائلات إقطاعية كبيرة من المناطق الشافعية أو مناطق "منزل" بمقابل الأخريين "الزيود" أو أصحاب "مطلع" من القبائل، حيث رفض، وتظاهر، الكثير من الطلاب والنشطاء السياسيين، "الحجريين" شكلوا الكتلة الأكبر منهم، ضداً على الأستاذ النعمان مثلاً، الممثل الضمني عن الشوافع أو اصطحاب تعز والحجرية في صيغة الحكم في تلك الفترة باعتباره "رجعي" حينها، لقد شكل ذلك أول رفض علني، وبشكل مدوي، لصيغ التمثيل المقرة في اليمن، وفي ذلك نقض خطر لتصور آمن ومتراض عليه يحكم البلد حينها. تمدد هذه التعبيرات الجديدة للجيش، مؤسسة القوة الحديثة والأهم، يمكن أن يحدث فرق خطر. بسبب ذلك حضرت أحداث أغسطس 1968 حينها بشكل ملح ولايمكن تأجيله خشية من الاسوء لاحقاً، حيث اتخذ قرار تم تنفيذه بتصفية الإيديولوجيات الجديدة في الحياة العامة وبالأخص في مؤسسة الجيش، باستثناء البعث المتحالف مع الصيغة المحافظة حينها، وكانت تلك الإيديولوجيات مقترنة بأبناء الحجرية ضمنياً، فشملت التصفية الاثنين بدون تمييز، وهي تصفية فعلية ضرب فيها بدموية الكثير من الضباط المهمين المنتميين للحجرية، وحدث بسببها لاحقاً ما يشبه "الفلترة" لحضور أي "نفوذ" أو تواجد فعلي لأبناء هذه المنطقة في مؤسسة الجيش، علاوة على اعتقالات واسعة للكثير من النشطاء السياسيين من الحجرية ومن مناطق أخرى كثيرة، كان معظمهم إجمالا ينتمون لما يعرف بـ "اليمن الأسفل" من أولئك الذي استجابوا فعلياً لوعود التغيير التي جلبتها ثورة 62.

ضريبة الإيديولوجية
استمرت الإيديولوجيات مقترنة بأبناء الحجرية، ومناطق وأفراد أخريين بالضرورة، ولم تنجح أحداث أغسطس في ضرب نشاطهم السياسي المدني التي تأسس بناءاً عليها، إذا استثنينا الجيش بالضرورة، وتأسست أحزاب سرية في شمال اليمن شكلوا ضمنياً كتل كبيرة فيها، مثل الحزب الديمقراطي الثوري وحزب العمل والتنظيم الناصري والبعث، وشاركوا بنشاط لاحقاً في الجبهة الوطنية الديمقراطية التي شكلت ابرز مواجهة مسلحة مع النظام الحاكم المحافظ في الشمال، كل ذلك أدى إلى وضع تعز، والحجرية خاصةً، تحت عين أمنية شديدة الانتباه وترت علاقتهم بالنظام باستمرار، كما أدى إلى وجود تصنيف عام وضع المنطقة في إطار "معارض" بشكل دائم بما يرتبه ذلك من أشكال "عقاب جماعي" ذات طابع سياسي أو تنموي أو امني. بمستوى أخر ارتبط الكثير من "الحجريين" بتصنيف ضمن النشاط السياسي كانوا فيه ذوي علاقة بالأفكار أكثر من المواجهة في "الميدان"، وخصوصاً في فترة "الجبهة"، حيث تعمل عبء العمل المسلح في ذروة النشاط العسكري أبناء المناطق الوسطى وشرعب، بينما كانت الحجرية خارج مناطق الصراع المباشر، وهو ما رتب "نقمة" صامته لاحقاً على أبناء الحجرية تبعاً لذلك أسقطت الملاحقة الأمنية التي تعرضوا لها من الحساب، حيث كان النظر للكلفة المباشرة للصراع هو الأمر المحسوس بالنسبة لأولئك الذي قاتلوا ودفعت مناطقهم ثمن محسوس وقاسي تبعاً لذلك، وهو ما لم "تتذوقه" الحجرية برأي الكثير من متضرري فترة الصراع تلك.

تمدد كتلة سكانية كبيرة
تمثل الحجرية الكتلة السكانية الأكبر في تعز، وفي ظروف متعددة أخرى ما تشكل تصور عام ألغى المسافة بين الاثنتين وطابقهما، وجعل من الأولى تعريفا للثانية، فيصبح التعزي "حجري" بالضرورة، وليس العكس كما هو مفترض! انتشار أبناء هذه المنطقة في كافة مناطق اليمن نتيجة هجرة داخلية نشطة "لطلب الرزق"، جعلها أكثر المناطق حضوراً على المستوى الوطني، وعرضها تبعاً لذلك لأعباء انطباعات مختلفة، تم بناءها اعتماداً على النسق الثقافي في كل منطقة تواجدوا فيها، حيث يتم تصنيفهم، إيجاباً أو سلباً، تبعاً لمستوى تقاطعهم مع منظومة القيم الاجتماعية والثقافية التي تحدد قدر الأفراد حيث يكونون. تخفف أبناء الحجرية من فكرة "العيب" الحاضرة بكثافة في مجتمع تسيطر على قيم محافظة، وقيم تقرن "الرجولة" و"القوة" بحمل السلاح عادةً، ترى "الفلاح" مجرد "رعوي" قياساً بالتفضيل الذي يُسبغ على "القبيلي" الذي يصبح حتى البيع والشراء انتقاصاً من قدره، وهو شأن استمر حتى فترات قريبة في اليمن قبل أن تقوم أرباح التجارة وفكرة الثراء بتغييرات مهمة في العادات ومنظومات القيم القبلية في اليمن لم تقرأ بعد. ذلك أدى إلى "انطباع" أفكار سلبية عنهم بمستوى ما، كان اهتمامهم بها منخفضاً على الأغلب لصالح أولوية "الحاجة" والتعامل مع ضرورات "الرزق"، عوضاً عن العودة إلى مناطقهم حيث يحضر فقر شائع، ولا توجد فرص عمل في أراضي زراعية محدودة قياساً لعدد السكان الكبير، وأشكال "شراكة" مجحفة عادة بين "الرعوي" وملاك الأراضي في مناطق الحجرية.

شبه احتكار للوظيفة العامة
التحق أبناء تعز والحجرية بشكل كثيف في مؤسسات الدولة المختلفة، وشكلوا الجزء الأكبر من قوام جهازها الوظيفي بكافة مستوياته، ذلك مرده ارتفاع نسب التعليم في بلد ترتفع في نسب الأمية عادة، وبشكل ما بدا حضورهم ذلك ذو طابع احتكاري للوظيفة العامة قياساً بالفئات الاجتماعية الأخرى التي ينخفض عددها قياساً بهم، ذلك وان كانت أسبابه طبيعية بسبب التعليم والتأهيل يثير استنفاراً عاماً، فحضور "صاحب الحجرية" كموظف أو مدرس أو مهندس أو طبيب في الأجهزة الحكومية في مناطق ريفية مختلفة عادةً، وتواجد الأخريين بشكل اقل قياساً بهم يخلق حساسية من احتكارهم للوظائف، تفسير الأمر عادة لا يكون بسبب كونهم متعلمين، لوجود ندرة في المؤهلين علمياً في الفترات السابقة قياساً بالوفرة في "الجامعيين" من كل اليمن بالعقدين الأخيرين مثلاً، بالنسبة لمن يتلقون تمددهم في الوظيفة العامة، يعزى الأمر في مستوى شائع إلى كونهم أذكياء و"حذق"، والوصف هنا يُغلب طابع "الفهلوة" عليهم بسلبية ذلك، ولا يحضر باعتباره تنويهاً ومديحاً. بالطبع لم يحضروا في المؤسسات والأجهزة العامة للدولة ضمن مستويات الصف الأول، حيث حظر الانتباه الأمني تجاههم ذلك وخصوصاً في فترات كانت التقييم الأمني معيارياً بالنسبة للالتحاق بجهاز الدولة وللتقدم الوظيفي، ولكنهم استطاعوا أن "يهيمنوا" على المواقع التنفيذية ومفاصل الجهاز الوظيفي بشكل معين. هذا الأمر الذي تم تلقيه بسلبية في مستوى واسع قابلوه بعصبية من نوع ما، يمكن وصفها بعصبية المتعلمين، حيث شكلت تلك العصبية ضمانة من نوع ما في إدارة توازنات حضورهم المليء بالالتباس على المستوى العام في ظل عصبيات أخرى قوية مقابل مؤيدة بأسباب القوة المباشرة والعارية ولكنها قوة تتميز عادة بالفجاجة والافتقاد للحساسية وتثير الاحتقان والضجيج، بينما أداروا هم تعبيرهم عن حضورهم العام و"معاركهم" بصيغة تجعلهم ذوي قوة ناعمة ولكنها قادرة على إحداث فرق مستمر بأقل قدر من لفت الانتباه. 

صورة ملتبسة جنوباً
شكلت الحجرية "ريف عدن" الرئيسي بشكل باكر في بداية القرن العشرين، إلى جوار "أرياف" أخرى بالطبع، وحضروا كـ"أصحاب حرف" وعمال بشكل مبكر في المدينة الجنوبية الأكبر، ليصبحوا تبعاً احد الأطراف الرئيسية فيها ولديهم مصالح واسعة انضموا لحمايتها للعمل "الفدائي" ضداً على البريطانيين والمشاريع الأخرى التي تمتلك تصوراً أخر لعدن، الحضور الباكر في الإطار الوطني قبل الاستقلال شكل رافعة لأدوارهم السياسية اللاحقة بعده، فكانوا جزءاً أساسياً من الكتلة الإيديولوجية ضمن الجبهة القومية، وشكل عدد من رموزهم ابرز أوجه السياسة والصراعات في "الجنوب الماركسي". انعكست ادوار ومواقع هؤلاء الرموز على صورة أبناء الحجرية،"الجباليه" كما كان يطلق عليهم في عدن، حيث تم تلقيهم بالنسبة للكثير من التمثيلات الجنوبية كـ"منتفعين" و"انتهازيين" ضمنياً يستغلون الحزب، وعززوا مواقعهم في النظام اعتماداً على إثارة النزاعات بين الأطراف الجنوبية الجنوبية، كونها الوسيلة المثلى باعتبارهم طرف بدون "عزوة" قبلية تعززه في النزاعات على السلطة! ليمتد هذا التصور حتى الان، ويحضون بالنصيب الأوفر من خطاب الكراهية الذي أنتجته الأحداث في الجنوب ضداً على الشماليين، فهم "فرس" و"يهود اليمن"... الخ. لقد شكلت صورت أبناء الحجرية في الجنوب محل التباس شديد تداخل فيها موقع بعض ممثليهم السياسي والوظائف الأمنية لبعضهم مع الصراعات الدموية التي حدثت، لينسحب ذلك إلى تقدير متذبذب لهم ولأداورهم ينتقل في وصفهم من كونهم المتعلمين والمدنيين الأقرب لهم، إلى وصفهم بمثيري النزاعات "اللئام" والذين يتحملون مسؤولية كل ما حدث للجنوبيين!
نشرت في مجلة أبواب اليمنية

الأربعاء، 12 أغسطس 2009

يمن غير مرئية


ماجد المذحجي
الحضور التفصيلي للمأساة اليمنية مازال خارج المشهد، وضحايا العنف والفقر والجهل والقهر الاجتماعي وفساد أجهزة دولة وغيابها لم يسجلوا حضورهم في الاهتمام العام، وخارج المركزية الشديدة فأولئك الذين يتواجدون في المديريات الريفية البعيدة يسحقون يومياً ولا يحظون بفرصة لان ينتبه لهم احد. في محافظات مثل حجة والمحويت والحديدة تقع على هامش السياسة والتنمية ويندر الاهتمام بها خارج الدورات الانتخابية يتكاثر العنف اليومي ويغيب الناس تحت ثقل تسلط مرعب تنتجه تراتبيات قبلية شديدة الوطأة عليهم، وتنتج انظمه اجتماعية ذات طابع إقطاعي حقيقي تعتمد على القهر لضمان ديمومتها ضمن معادلة يصبح فيها الشيخ هو الرديف الفعلي للوحش الذي يقتات على أجساد ضحاياه، وكان في الأمر تمثيل حقيقي لذلك المدون، أو المتخيل الشائع، عن النظام الإقطاعي الأوروبي في القرون الوسطى ولكن ضمن إحداثيات أخرى تقع جنوب الجزيرة العربية وبتوقيت زمني متأخر بخمسة وستة قرون. يتحالف الشيخ مع السلطات المحلية ومديريات الأمن والجهاز القضائي مقيماً شبكة واسعة من العلاقات والمصالح المتبادلة التي تعزز نفوذه ضداً على رعاياه، مما يجعل هؤلاء الأخريين دون أي حماية وعرضه لـ"تغوله" الفعلي.
مؤخراً حظيت بفرص متكررة لزيارة هذه المحافظات وسجونها وأماكن الاحتجاز فيها ضمن وظيفتي في برنامج الحماية القانونية لضحايا العنف من النساء والأطفال الذي ينفذه منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان، الأمر يتعلق تماماً بانتزاعي من ترف الحديث العام عن الانتهاكات ليخضعك لتجربة قاسية تجعلك على مستوى قريب من العنف اليومي الذي يتعرض له الناس، حيث تصبح جدلياتنا المتواصلة في الفعاليات الحقوقية لغواً على هامش أجساد تتعفن وحياة تسحق بالمعنى الحرفي لذلك. إن مشكلتنا الفعلية نحن النشطاء أو الصحفيين، علاوة على كونها مشكلة السياسيين الفعلية، هي في تجريد مايحدث، نزع الضحايا من إنسانيتهم ليصبحوا إنشاء بلاغي، ولتصبح أيضاً التجربة الشخصية شديدة الألم لكل فرد منهم مجرد حاصل جمع في تقاريرنا الحقوقية أو قصة سريعة على هامش الصحف. تسقط التفاصيل أثناء الحديث باسترخاء عن الضحايا ضمن أدوارنا العامة، ليصبح ذلك، إلى جوار فشلنا كنشطاء حقوقيين في القيام بحماية حقيقية لهم، انتهاك إضافي، فالتفاصيل تنفخ الحياة في المأساة وتمنحها هيئة وملامح، وتنقل الحديث من المجرد نحو الملموس، ليصبح هؤلاء الضحايا مرئيين بالفعل بالنسبة لنا.
إن الفشل العام في حماية الناس من المظالم هو عنوان عريض لفشل الدولة في قيامها بواجبها الأساسي تجاه مواطنيها، فحقها التكويني في احتكار القوة وتفويض المواطنين لها باستخدامها مشروط بإنفاذ العدالة وقيام الإنصاف. ليصبح عدم تحقق ذلك هو الفاعل غير المعلن لضعفها المستمر وتلاشي حضورها في كل مكان على الخارطة الوطنية، ولذلك يخرج الناس باستمرار، حقاً وباطلاً، لتحصيل حقوقهم بنفسهم أو التعدي على غيرهم أو عليها.
يتحالف في مديريات حجة والحديدة والمحويت غياب الدولة مع استشراء الفساد بين ممثليها وعنفهم غير المقيد، ويتعرض الناس لأشكال من متعددة من الابتزاز والتعدي والقهر، ويتفاقم الأمر بكونهم غير مرئيين في مراكز محافظاتهم ولا لنا أيضاً في العاصمة، وبسهولة يمكن تحسس الخوف والإنهاك في ملامح الناس، وفداحة التناقض بين وفرة الأرض وخيراتها وما أصبحوا عليه من عوز وتعب.
اليمن مازالت غير مرئية بالفعل، ونحن نحتاج جميعاً مشاهدة التفاصيل، وتلمس المسافة التي تفصلنا عما يحدث فعلياً على هذه الأرض، وتربية حساسية تجاه الألم الذي ينوء تحته الناس بينما نحن منهمكين في معاركنا الصغيرة وانجاز انتصارات لا تحدث فرقاً في حياة احد أبداً.
نشر في صحيفة النداء