الثلاثاء، 26 يوليو 2011

المذحجي: الثورات قد تدمر حياة البشر أكثر من الاستبداد


شاعر أنهكته الأماكن وأثقله الحنين، يوزع حجرات قلبه ملاذا للعابرين، ويتلمس نزفه المدفون سرا.
يمضي في متاهة السياسة غير عابئ بالنهايات، يغربل صورة "الثوري" التي يعلق عليها الحالمون نذورهم، ويوسمها بالنرجسية.
لا تغويه الحشود، ولا يأمن للثورات، بل يرقب أعمدتها الآيلة للسقوط، ويدق أجراسها في كتاباته؛ شعره غير القادر على التملص من الواقع، ومدونته على الإنترنت.
الشاعر والناشط الإنساني اليمني ماجد المذحجي لم يكن سهلا التغلغل في ذكرياته، رغم أنها منحوتة على مصاطب الكتابة.
"الكويتية" حاورته عن الشعر.. وعن ثورتي اليمن ودمشق اللتين تمرغ بينهما بالقلق والحنين.. والمسافة الملغزة!

افراح الهندال

حوار/ فراح الهندال ...










لن أقول أبدا «ملتزم»... هل أنت شاعر متأزم؟
لست شاعرا ولا أدري ما الذي أنا عليه، أنا فقط رجل يحب الكتابة الجيدة... 
 
اخشى كثيرا من التخفف الأخلاقي الذي يدفع نحوه "مزاج" الكتابة الحديثة
في ظل هذه الظروف العصيبة على اليمن، إلى أي مدى يحفزك الوضع على الكتابة؟
 ما يحدث في اليمن هو استنزاف فعلي، حدث مركزي استغرق وقتا طويلا ويدفع الذات وانشغالاتها خارج دائرة الاهتمام ويصادرك كلياً لمصلحة إيقاعه. لذلك أشعر بأن الأمر يعطلني في مستوى ما ويعطي الأولوية لانصراف كلي نحو تفاصيل السياسة ومتابعة دوامة «الحدث الثوري» بكل صخبها وحماسها. بالطبع لا يحدث كل ذلك قطيعة نهائية مع كتابة النص، لكن متن ما تكتبه، ونادرا ما أكتب مؤخرا، يستغرق ضمنا في الحدث وبجواره على أقل تقدير، مثلا لا يمكن لنصك ألا يتلفت نحو الشهداء.. التورط في رثاء «حيوات» كثيرة تنصرف من جوارنا نحو السماء، ليس رثاء بالمعنى الكلاسيكي، ولكن في الأمر إعادة بناء لصورة الشهيد وحضوره الإنساني البسيط خارج «الرطانات» النضالية التي تفصله عن الحياة وتجعله أشبه بكائن علوي تنزل فجأة من السماء. الكتابة الإبداعية هنا «تؤنسن» صورة الثورة القاتمة وتتعرف في هذا الحدث الجماعي المزدحم بالبشر على صور بعض من فيه وشيء من حياتهم. 

السياسة والشاعر
 ألا تتدخل السياسة بالحراك الذي فيها والانفعالات والتكتم.. على الشاعر فيك؟
السياسة فعل عام وتشاركي يعرض المنطقة الشخصية، للمنخرط فيها، لانتهاك كبير ويكشفها بشكل متوتر على المحيط الاجتماعي للفرد، تلك المنطقة الشخصية بخصوصيتها وعزلتها هي ملاذ الكاتب الابداعي شاعرا كان أو قاصا أو كاتب للنصوص فقط، وهكذا تصبح السياسة بهكذا تعريف، حاد ربما، هي اعتداء المجتمع على «المبدع» وعلى عزلته الشخصية وخصوصيته. بالتأكيد لست ذلك الكاتب المتفرغ للاشتغال الإبداعي فقط، بل أنا أركن جانبا هذا النوع من الكتابة مؤخرا لفترات طويلة وأنصرف نحو الكتابة السياسية، هذا النوع من الكتابة يمتلك إغواءه أيضا، إغواء الموقف والدور العام وإبداء الرأي في ما يدور فيه، خصوصا إذا امتلك ما تكتبه تقديرا جيدا لدى الناس. إجمالا لست سياسيا ولا أريد، لكنني أكتب في الحقل السياسي حين يلتهب حدث وطني يخلف نزيفا في أرواح الناس ودمائهم، حدث ذلك كثيرا في حروب «صعدة» المتكررة شمال اليمن، وفي تداعيات الحراك الجنوبي السلمي، ويحدث الآن في الثورة الحالية التي يناضل اليمنيون للانتصار بها في مواجهة أحد أكثر الأنظمة مكرا واستبدادا. 
هذه أحداث دفع الكثير من اليمنيين دماءهم فيها وطبع تناولها من قبل العديدون، ومن قبل أبواق نظام سياسي استبدادي عنيف وأرعن، الكثير التحيزات الرديئة ذات الجذور العنيفة، سياسية ومذهبية وجغرافية، الأمر الذي جعلني أتورط فيها من موقع حاولت أن انتصر فيه على أي تحيزات شخصية لدي لمصلحة موقف أخلاقي يعلي من الحساسية تجاه أي معايير مزدوجة.                                                     
الكتابة الإبداعية "تؤنسن" صورة الثورة القاتمة
أنا أخشى كثيرا من التخفف الأخلاقي الضمني الذي يدفع نحوه «مزاج» الكتابة الإبداعية الحديثة في بعض الأحيان، حيث تصبح الذات وانشغالاتها هي مركز الكون، وما دونها لا يستحق الاهتمام، واحتاج لذلك إلى الكتابة السياسية من واقع كونها اعتراضا معلنا على الصمت والتواطؤات في بعض الأحيان، وتسجيل موقف أخلاقي ربما خصوصا تدير المعايير البراجماتية للسياسة أعين أصحاب الشأن بعيدا عما يجب أن يروه ويتوقفوا أمامه مطولا. بالطبع أعود للكتابة الابداعية من حين إلى آخر ولدوافع شتى: للحاجة للفضفضة الشخصية الحميمة، للتعامل مع ما يخلفه انفعال عاطفي، لكن كثيرا ما أكتب للتصدي للحنين، يستنزفني الحنين لأشياء كثيرة، ولذلك أختبئ منه في النصوص وفي تصعيد اللغة حتى الحد الأقصى، كأنما أريد أن اختفى في غنائيتها العالية.

الثورات مدمرة

«استهلكني تضخم نموذج المناضل»...بعد البوعزيزي وأبطال الثورات، أمازلت تراه تضخما موهوما؟
أرى في فكرة المناضل نموذجاً متضخماً ونرجسياً
 نعم مازلت أرى في فكرة المناضل نموذجا متضخما على حساب الآخرين ونرجسيا إلى حد كبير، ليس ذلك متعلقا بالبوعزيزي والأبطال العاديين الذين انخرطوا في كفاح مشرف لإنجاز التغيير في بلدانهم دون الانشغال بشيء آخر، بل هجائي منصب على أولئك المعتاشين على هذه الفكرة والذين يحولون من «نضالهم» إلى رأسمال رمزي وسلطة على الآخرين. يرعبني في الثورات أنها تنتج استبدادا أيضا، فهي بمستوى ما تطلق حقائق كلية حاسمة وتصدر باسمها لغة قطعية حادة ومتوترة لا تقبل النسبي ولا تتعرف على التفاصيل، و»الثوريون» لديهم جاهزيه عالية لإصدار الأحكام القيمية ونصب محاكم التفتيش للبحث في مدى «وطنية» الآخرين، ليسوا كلهم بالضرورة كذلك، ولكن في كثير من الأحيان يدمر «تعسف» بعض الثورات حياة البشر أكثر من الاستبداد الذي انتفض الناس ضده وقامت هذه الثورات لمقاومته. 
على الكاتب والمبدع والمثقف في كل حال أن يبقى قلقا ونقديا ومليئا بالشك تجاه ما يحدث من حوله، ويجب عليه ألا ينخرط في الأدوار التعبوية العمياء، هذا لا يعني أن يبقى محايدا حين ينتفض شعبه مثلا، ولكنه يجب أن يحذر من التحول بحساسيته الشخصية إلى المنطق «الذرائعي» ويخفض بالتالي معاييره الأخلاقيه والنقدية لمصلحة أيا كان.

حداثة.. تصاعد الأحداث
هل يمكن أن نؤسس حداثة شعرية من هذا الواقع المرير، الواقع المنهك سياسيا، المتردي اقتصاديا، القلق اجتماعيا؟
لغة الثورات قطعية حادة متوترة.. لاتقبل النسبي ولاتتعرف على التفاصيل
كتبت مادة صحافية بعد الثورتين التونسية والمصرية أناقش أفكارا كهذه التي تضمنها السؤال، وبالتحديد عن الأثر الذي ستخلفه هذه الثورات في المنطقة العربية على الجملة الإبداعية فيها، وعلى تقدير الكاتب لنفسه وكيف يمكن أن يتغير إدراكه للكتابة ووظائفها ومضمونها وشكلها في شروط جديده تتخلق في محيطه. أعتقد أن هذا واحد من أهم الموضوعات التي تحتاج للنقاش، خصوصا ان التحولات في شكل ومضامين الكتابة الإبداعية العربية ارتبطت ضمنا بالتحولات السياسية في المنطقة. لقد أنتج شكل قصيدة التفعيلة في فترة مخاض الثورات العربية إبان خمسينيات القرن الماضي، ليتطور شكلها ومتنها مع تصاعد الصخب والنقاشات والأحداث الوطنية في الستينيات، كما تأثر مضمون الكتابة الإبداعية العربية بالجدل الإيديولوجي الذي ساد عقد السبعينيات وما فوق، ليبدأ شكل ومضمون جديد في الكتابة العربية تصعد منذ الثمانينيات حتى التسعينيات التي شكلت عقدا فارقا بعد زوال الاستقطاب السياسي العالمي وبدء انفتاح العالم على بعضه، ومن بعدها كان على الكتابة العربية أن تتعامل مع سيولة المعلومات وثورة الاتصال والإنترنت التي وسعت دائرة المخيلة ومواردها أمام الكتابة في العالم برمته. أعتقد الآن أن هذا الحدث الثوري الحالي في المنطقة العربية سينعكس بطريقة غير متوقعة، ولكن سنلمسها قريبا على أشكال ومضامين و»حداثة» الكتابة الإبداعية العربية وليس علينا سوى الانتظار والمراقبة. 

أضعت قلبي في دمشق
عشت لفترة طويلة في سوريا؛ وبينها وبين اليمن «اشتعالات» مشتركة الآن.. أي منها تأخذ قلبك؟ وأي منها تستكتبك؟
لم ولن أستطيع التعافي من دمشق.. وهذا ماينهكني
أعيش في اليمن وما يحدث فيها يمسني مباشرة، لذلك من الطبيعي كثيرا أن يستولي علي ما يحدث بها، لكن فداحة ما يحدث في سوريا يخيفني كثيرا. لي في سوريا حياة كاملة مازلت أستعيدها وأحبها وأشعر بالحنين إليها، وهذا النظام المروع الذي يسحق شعبه في كل سوريا يشعرني بالقلق، وأخاف أن يقترب من أصدقائي هناك ويمسهم بسوء. 

«دمشق مسافة غامضة في الداخل»، لن أقول ماذا تذكر.. بل ما الذي اندثر من دمشق؟
لا شيء.. مازالت دمشق بأكملها بداخلي يقظة وحارة. لم ولن أستطيع التعافي من دمشق، وهذا ما ينهكني. سافرت وعرفت بلادا كثيرة ولكن لدمشق يد باردة تعتصرني من الداخل دوما. كيف لدمشق أن تنقضي بداخلي وأنا متأكد من أن الفتى الذي كنته هناك أضاع قلبه فيها وعاد. 

يتهم بعض الأدباء الراحلين عن بلدانهم بأنهم يظلون أسرى ذاكرتهم وتجاربهم الذاتية، ما الذي استبقيت عليه من اليمن في دمشق، وما الذي عدت به إلى اليمن منها؟
ما زلت أتعرف على نفسي منذ عدت من هناك.. تورطت كثيرا في سوريا وربما أكثر مما يجب، أحببت كثيرا هناك، واندفعت في كل شيء. كنت ادع انفعالاتي تقودني نحو الحد الأقصى، وهذا ما لم اعد افعله هنا. كنت هناك «الأسمر» و»الغريب» الذي يحظى بتدليل النساء ومودة الأصدقاء، واستطاع أن يستفيد من طاقة السوريين الهائلة على الحب والتعاطف.... لكن أتعلمين، أعتقد أنني عدت من دمشق بالحنين لها.

رصانة غير مقبولة
 تناوشك حسرة على «كل خطوة خسرتها في الحياة وأنت تمضي بعيدا في رصانة لا تخصك»، فهل شذبت تمردك؟
مازال لديّ الكثير من الشغف والرغبة في مناطحة العالم..
ولكنني وهنت
 نعم فعلت ذلك كثيرا، مازال لدي الكثير من الشغب والرغبة في مناطحة العالم، ولكنني وهنت ربما لمصلحة سياقات اجتماعية يبدو أنها أذكى وأقسى مما كنت أظن. مازلت ارتكب الكثير من الحماقات والجنون حين أغادر اليمن في أي رحلة، استعيد نفسي حتى الحد الأقصى، وكأنني أعوض الدقائق والأيام التي أمضيتها في هذه الرصانة الباردة. بالطبع أظن أن هذا التمرد الشخصي لم يعد يأخذ شكلا نزقا وعالي الصوت لدي في اليمن، مازال لدي منه الكثير، ولكني صرت أتحايل به على مجتمع مثل مجتمعي يستطيع مسخ الروح وتدمير قدرتك، أو رغبتك على الاختلاف والتمايز. اعتقد أن التمرد في جوهره اعتراض على التشابه وعلى وطأة الصورة الباردة والمتكررة التي تريد الأنساق والقيم السائدة من حولنا طبعنا على شاكلتها.


لست شاعراً.. ولا أدري ما أنا!
«الفتنة نائمة» ما الذي يوقظها في نفسك ماجد؟
خطوة امرأة جميلة بالقرب تدفع المرء للتلفت سيكون سببا كافيا لإيقاظ الكثير من الفتن الساحرة، ربما أيضا كتابة حارة تجعلني أتحفز وأشعر بالحسد.

هناك 11 تعليقًا: