الثلاثاء، 5 ديسمبر 2006

عن المُضمر في اليمني: ريبته، وذعره، وقلة كلامه

ماجد المذحجي
تُنشأ العلاقات بين الأفراد والمجموعات في مجتمعنا، وهي مسكونة بـ "الاحتراس" و "التوتر" المسبق، وضمن انتباه عالي بالآخرين، مُستبطن بالشك فيهم، في إطار تأكيد متواتر على أن ذلك من "حسن الفطن"! إن الإفراط في الثناء و المجاملة، وامتلاء اللغة اليومية بين الأفراد بها، هو شأن يتعدى الدلالة الأولية التي تُشير فقط - بسطحيه وسذاجة - إلى سيادة "الأدب" و "التهذيب" في الملفوظ المتداول، وتعزو أسباب ذلك لكمية "أخلاق" فائضة!! (ليس في كلامي اعتراض، أو استنكار، لـ أهمية التهذيب و المجاملة بين الأفراد، وميزة حضور هذه التعبيرات في العلاقات بين اليمنيين، لكني ارغب هنا بتفكيك دلالات أخرى تمتلكها هذه التعبيرات، بجوار امتلاكنا للأخلاق الحميدة بالطبع!)،  ليُشير بشكل مهم و أساسي - برأيي الشخصي - إلى كونه وسيلة لـ "التحوط" و الاقتصاد في الحديث، وحماية الكلام بالعموميات التي لا تفصح عن رأي، وتضبط إيقاع تبادل الكلام مع الأخر ضمن مقتضيات " البروتوكول " فقط، بما يُنقذ الطرفين من أي مآخذ قد يقود لها "التبسط"و "الاسترخاء" في الحديث! وفي مستوى إضافي، يُصان "قول" الفرد منذ تفتح وعيه، وإطلاق لسانه بالكلمات الأولى. حيث تبدأ منظومة قيم الجماعة المحيطة بمصادرة تعبيره، لضبطه، وتحديد سقف المُتاح من الكلام. ويتحدد شكل الخطاب الذي يُتاح للفرد، أو عليه التصرف وفقه، بناءاً على موقعه في التراتبيه الاجتماعية، ونفوذه، وهويته الثقافية (يتوسل مفهوم الهوية الثقافية هنا - وبشكل إجرائي لخدمة المقال -  التعريف الانثربولوجي الموسع للثقافة والتي يجعلها تشتمل على الدين، والعادات،...الخ). يتزايد طبعاً، وبشكل أساسي معايير هذا التشديد على حجم "المُتاح"، لدى أفراد الأقليات الطائفية والدينية (الإسماعيلين، واليهود كمثال لهذه الأقليات) في علاقتهم المُربكة بالمجموعات الكبيرة (وحتى المجموعات الكبرى - بسبب تجاورها، وتنافسها - تخضع لقدر من هذا "التشديد"، لغرض حماية العلاقة "الطائفية" الدقيقة فيما بينها من الإرباكات المفاجئة، والتي قد يؤدي لها كلام "فالت")، وهي أقليات تميل إلى الاقتصاد في الحديث، وفي العلاقات العامة مع الآخرين من خارجها، بغرض حماية نشاطها اليومي والمعيشي، و معتقدها "الديني" أو "الطائفي"، من التحديق، والمُسَألة المستمرة المسلطة عليهم!!. إن حضور الأفراد في المجتمع ضمن مستويات فرز مختلفة، يترتب بناءاً عليها موقعهم، وعلاقاتهم بالآخرين، ضمن الجماعة الطائفية، أو الرابطة الدموية، أو الانتماء الجهوي والمناطقي، يخلق أشكال مختلفة من "القول" المنضبط، يخص كل فئة من الأفراد، حسب موقعها الذي يحدد كيف، وبأي طريقة، يتم فيها تبادل الكلام مع كل فئة أخرى، وكل واحده على حده، كل ذلك ضمن صياغة نفسية عامه، تميل إلى ضرورة إضمار الرأي، والتأكيد على الريبة، وتنمو حول جذور ذعر كامنة في العمق، تلتف حول المخاوف التي يجلبها الكلام دون "تحسب"، وبحرية، ضمن الضابط أو التقدير الذاتي فقط، وهو الكلام الخطير حين يكون بعيداً عن الوصاية العامة!؟. إن هذا الإضمار كفعل عام يُميز مستوى التعبير المنخفض عن الآراء، أو المعتقدات، أو المواقف، في المجتمع. ينمو ويتعزز بفعل سيادة أخلاق الاستبداد، والمصادرة العنيفة للأخر بسبب الاختلاف، وامتلاء الذاكرة بدورات دم عنيفة كان سببها التصريح بالتمايز الفردي، أو الجماعي، أمام مزاج قوة غاشم، يحمي مصالحه بالتعميمات السياسية والثقافية والدينية. وهو يدل على الهشاشة، وحضور علاقات القوة بمزاجها الاستبدادي بين الإفراد والمجموعات، وعدم وجود تعاقدات تُساوي بين الأفراد، وتمنحهم الحرية في الكلام والتعبير،وتنتمي لخارج أملاءات الحذر و الإحساس بالضعف. إن العائلة، والقبيلة، والمنطقة، والطائفة، هي مؤسسات تواطأت على إنشاء هذا المنظومات، واستساغت ضعف الهوية الفردية، وكرست هذا "الإضمار"، وهي لوحدها - بصيغتها الجماعية - تُقرر المصلحة نيابة عن الأفراد، وتصيغ "كلامهم" ضمن تبريرات أخلاقية وثقافية ودينية وسياسية مختلفة، بغرض تجذير وتمكين فكرة الخضوع في الناس، و ضرورة عدم الإفصاح عن "الاعتراض" أو "التمايز"، وحماية تراتبية السلطة وتشكيلاتها كما هي عليه. ويأتي حضور الدولة أيضاً - بشكلها الحديث طبعاً، قياساً بالأشكال "البدائية" الأخرى، والمسيطرة أيضاً ضمن مجالاتها، ودائرة نفوذها الخاصة - بعد الاستقلال في الجنوب، والثورة في الشمال، ليُكرس "الذعر" من الكلام، والرأي الحر والواضح، فهي تعاقدت - بالقسر والدم - مع المجموع العام، على كونها فقط صاحبة الحق الوحيد بالكلام "الصحيح"، ولذلك قمعت الكلام الأخر، غير الصحيح والمُغرض، وحولت كل كلام لا ينمو حول كلامها، أو يتناسل منه، إلى "مُضمر" في صدور الناس وعيونهم. إنها كدولة مُستبدة، لم تتأسس كتعاقد مدني حديث، ضمن الفهم التنفيذي المباشر - وليس النظري الاستعراضي - لجوهر الأفكار الديمقراطية، و هي حتى في إشهارها الحالي، الذي يدعي عكس ذلك، حولت الكلام العام إلى رطانة سمجة وثقيلة، يتمحور بمجمله حولها، ويدور في فلك "التسبيح" لها، والتعظيم الدائم "لرموزها" و"انجازاتها" دون أي اعتراض، وهي لذلك، وحين تضطر لخفض درجة استخدامها للعنف، تُعاقب في اقل الأمر، على الخروج عن كلامها، بالتشهير الأخلاقي والوطني، والذي سيقول - في حده الأدنى - أن أصحاب الكلام الأخر هم "قليلي أدب"، أو "ناكري معروف"، أو "لا يحرصون على المصلحة العامة".
 طبعاً لا يُمكن تجاوز أن الدولة بصيغتها المستبدة الحالية، هي ابنة التعاقدات البدائية الأولى، ونشأت بالتحالف والتنافس معها، ولكنها فقط طورت أشكال خطابها، وميزته بمؤيدات القوة التي تحتكرها، و تحاول - بنجاح حتى الان - قصر هرمية السلطة على فرد ومجموعة واحده، بعدما كان مقتسم بين مجموعة أفراد، وجماعات قليله. وبرأي، أن نقد هذه المصادرة السياسية و "الأمنية" من قبل الدولة، يجب أن يستدعي بالأساس، نقد المُصادرة الاجتماعية - شديدة الفعالية والنفوذ - لصوت الأفراد، وتأسيس " نظر " واضح، يخص سلوكيات المصادرة النشطة، والتمثيلات الرمزية لها، ضمن الوحدات الأساسية المكونة للمجتمع، وتفحص منظومات التبرير الثقافية والأخلاقية التي تسوغ هذه السلوكيات، وذلك ضمن مرجعية السؤال التالي: كيف يستولي المجتمع على صوت أفراده، ولماذا، وكيف يمكن وقف ذلك؟!

الخميس، 23 نوفمبر 2006

ذاكرة اليمنيين رفوف فارغة


ماجد المذحجي
يمتنع الكثيرون عن الحديث عن أنفسهم بوصف ذلك خفة، أو ربما لكونه افتتاناً شخصياً لا يلائم الرصانة، و يهمل المعيار الاجتماعي السائد الذي سينتقص منهم مباشرة، ويصفهم بالانتفاخ، والتمركز حول الذات، في ظل تلقٍ واسع، يميل إلى مطابقة الأفراد في الصوت العام، ويستنكر أي أداء فردي لا ينشغل به، وينشئ صوتاً خارجه، لا يتمحور حول مقولاته وأولوياته، فكيف إذا دار صوت هذا الفرد حول ذاته؟!!. أستقدم هذه الفكرة كمدخل، وأنا أفكر بغياب الحديث عن التجربة الفردية في التعبير اليمني العام. إن حقل الحديث عن التجربة الذاتية للأفراد في الثقافة اليمنية - في تناوبها السردي بين الشأن الشخصي والشأن العام - لم يحظ بفرصة كافية للتعبير عن نفسه، وبالتالي للحضور والتداول والنقاش، وتأسيس تقاليد في هذا الاتجاه، في ظل ممانعة اجتماعية وثقافية ذات جذور تقليدية شديدة التأصل ترفض الإفصاح الشخصي الذاتي الطابع!!. يمكن تلمس ذلك في نسبة كتب السيرة الذاتية في التدوين اليمني، حيث تنخفض إلى الحدود الدنيا قياساً بأشكال التدوين الأخرى، على قلة التدوين والإصدار اليمني بشكل عام، وتنشغل -إذا حضرت لدى القليلين- بالمطابقة الشخصية للحياة، مع الشأن العام فقط، والتركيز على حضور الفرد فيه، مع تغييب لحضوره الفردي ضمن الهواجس، والأفكار، وأشكال الخبرة اليومية البسيطة والشخصية، التي ساهمت في صياغة تعبيره وحضوره الإنساني اللاحق، وتحولاته الحياتية، ضمن الصيغ العاطفية والنفسية والعائلية، إلا في إطار الإطلالة العابرة، التي لا تغادر مزاج السرد الخجل، الذي يريد التخفف بسرعة من تهمة الأنا المتضخمة التي قد تلتصق به، أو لخشية من انتباه اجتماعي، قد يمارس فعل التشهير والاصطياد في أي اعترافات ذاتية. إن ضمور حضور السيرة الذاتية في التداول الثقافي والسياسي، يصبح ذا دلالة مفزعة، حين يمتنع عنه أفراد ذوو مساهمة أساسية في صناعة التاريخ الوطني الحديث، أو أصحاب تجربة ودور مهم في صياغة التعبير الثقافي، والفني، والفكري... الخ!!. لم نشهد في الغالب العام، تجربة تدوين للسيرة الذاتية، تقوم بها شخصيات اجتماعية وسياسية يمنية، مهمة ومعاصرة، إلا في النادر الذي لا يشكل قاعدة، والذي منه تجربة الشيخ سنان أبو لحوم، ومحسن العيني، ومحمد عبد الواسع حميد الاصبحي ( الخويل )، والدكتور/ عبد الرحمن البيضاني، والعمل المحدود للمرحوم/ عبد الغني مطهر، واللواء/ عبد الله جزيلان، بالإضافة للأستاذ المرحوم/ محمد احمد النعمان، الذي مارس تدويناً شفهياً جزئياً، بتحريض من قبل شخص آخر( ليس يمنياً بالتأكيد، بل لبنانياً كما أتذكر )، تم حفظه لحسن الحظ، ضمن وثائق الجامعة الأمريكية ببيروت، وتم نشره لاحقاً من قبل المعهد الفرنسي للعلوم والآثار الاجتماعية إذا كنت دقيقاً. وهو تدوين على قلته في العموم، كان أقرب إلى التوثيق التاريخي لأحداث معينة ومهمة، من وجهة نظر ذاتية، ولم يغادر هذا المربع ليشكل تدويناً منفتحاً على السيرة الشخصية إلا بشكل عابر. طبعاً لم تقم شخصيات أخرى مهمة بهذا التدوين، مثل الشيخ/ عبد الله بن حسين الأحمر، والمرحوم الشيخ/ مجاهد أبو شوارب، والمرحوم الحاج/ هائل سعيد أنعم، والمرحوم الأستاذ/ عمر الجاوي، والمرحوم القاضي/ عبد الرحمن الارياني، والمرحوم الإمام/ محمد البدر، والأستاذ/ إبراهيم بن علي الوزير، والأستاذ/ عبد الله عبد العالم، و الأستاذ/ علي صالح عباد ( مقبل )، والدكتور/ ابوبكر السقاف، والأستاذ/ محمد سعيد عبد الله ( محسن )، والأستاذ/ علي سالم البيض، والأستاذ/ حيدر ابوبكر العطاس، والدكتور/ ياسين سعيد نعمان، والدكتور/ فرج بن غانم، والمهندس/ فيصل بن شملان، والأستاذ/ عبد الرحمن الجفري،والأستاذ/ سالم صالح محمد، والأستاذ/ أنيس حسن يحي، والدكتور/ عبد الوهاب محمود، والأستاذ/ علي ناصر محمد، والأستاذ/ عبد العزيز عبد الغني، والدكتور/ عبد الكريم الارياني، والمرحوم الأستاذ/ يوسف الشحاري، والمرحوم الأستاذ/ عبد الله البردوني، والدكتور/ عبد العزيز المقالح،والأستاذ/ مطهر الارياني، والأستاذ/ أيوب طارش، والأستاذ/ محمد مرشد ناجي، والأستاذ/ صالح الدحان، والأستاذ/ عبد الباري طاهر، وغيرهم الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية، ذات الصلة الوثيقة بصناعة التاريخ الوطني الحديث، وصياغة ملامحه وتحولاته. وأنا هنا أتجاهل، ولا أتحدث عن مدونات السيرة التي تكتب نيابة عن بعض الشخصيات من قبل آخرين، ضمن مزاج احتفائي يميل للغنائيات النضالية العمومية على الأغلب.
  إن عدم مساهمة كل هؤلاء في التدوين لسيرتهم الذاتية، هو بالحقيقة مؤشر على افتقاد الكثير منهم الجرأة على المساهمة في توضيح ملامح التاريخ الحديث لليمنيين، خشية تشابكات شخصية وسياسية واجتماعية وثقافية، ستلقي بثقلها على أي تعبير سردي ذاتي، يستبطن رأيهم مما حدث، وموقعهم فيه. وهو فعل تعطله مصالح وظروف متشابكة في الوقت الراهن، تستدعي غض الطرف، وركن التاريخ في مكانه المظلم. ولكون المساهمة في هذا الفعل التدويني المهم، هي مهمة مليئة بالمخاطر والحسابات - ذات بعد سياسي على الأغلب - بالنسبة للكثيرين، وهي مساهمة ستكشف عن مناطق مظللة وراكدة في الوعي الوطني العام، تم التعاقد على إبقائها في حيز الصمت، ضمن توافقات ضمنية واسعة ورديئة، تأسست بشكل ساخر على قاعدة الحديث النبوي الذي يقول: " إذا ابتليتم فاستتروا"!!، طبعاً باعتبار أن التاريخ اليمني الحديث بلية مفزعة، شارك الجميع في صياغة ملامحها، وهم بلا حيلة أمامها الآن!! طبعاً مع عدم إغفال أن من مارسوا التدوين لسيرهم الذاتية، حرصوا على صياغة سيرة مشغولة بالعام والتاريخي، متخففة حتى الحد الأقصى من الشخصي والذاتي والمعاصر، لكون ذلك يحرسهم من ارث اجتماعي وسياسي وثقافي، سيصطادهم بقسوة في أي هفوة. هذا بالإضافة طبعاً، إلى ضمور واضح في تقاليد كتابة السيرة الذاتية، على المستوى الوطني والإقليمي، وحضورها الخافت في المشهد الثقافي والأدبي، والذي تنتمي له كتعبير إبداعي ذاتي متميز بالأساس، ولاحتكار الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط بشكل عام لفعل التدوين التاريخي، وتعميم روايتها الرسمية فقط عنه، بما يستتبع ذلك من موقف قمعي ستتخذه من أي رواية أخرى له، تشكك في روايتها هي، من قبل أي طرف، سواء كان فرد، أم جهة بحثية أو سياسية. طبعاً الأنظمة تأتي هنا، كتعبير عن مصالح قوى وتحالفات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، أخذت الحكم بالقوة والغلبة، من قوى وتحالفات أخرى، ومن مصلحتها قمع رواية القوى الأخرى عن الحدث، وقسرها على الامتناع عن أي تأريخ له، باعتبار أن في ذلك تشكيكاً في شرعيتها بالأساس، والتي يتم التأكيد عليها، عبر صياغتها لأيديولوجية وطنية، تحتكر عبرها الحقيقة والصواب في ذاتها فقط!
نشرت في صحيفة النداء

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2006

في محاولة اكتشاف الصوفي.. أو الوعي به



ماجد المذحجي
ينشئ معظم الناس اطمئنانهم عبر أكثر من اختيار، كجزء من فعالية غير منتظمة أو غير مقصودة، لترميم هامش الأمان الذي يعيشونه، ويعانون من تآكله ضمن ظروف متعددة، تجعلهم الطرف الأضعف في الاختبار اليومي مع الحياة. إن الإحساس العالي بالهشاشة، والعيش ضمن منطقة الحاجة، والانتظام الدائم في دائرة القلق، شأن يؤبد الافتقاد للامان، ويعزز الرغبة في إنشاء تعبيرات اطمئنان مستمرة، تغلب عليها الصفة الدينية والروحية، اعتماداً على كون الحيز الديني داخل الأفراد "البسطاء" هو حيز الأمان والمقاومة الأخيرة، الذي يمكنهم من الاستمرار. ويتميز هذا الحيز بكونه مليء بالوعود، وغير مقتصر على فكرة المواساة فقط، فهو يؤكد اطمئنان الأفراد على مصير أفضل مُعلق بـ "حياة أخرى"، ستضمن تعويضاً مجزياً عن ضنك "الحياة الحالية"، ضمن منطق يمتص بفعالية أي نزعات احتجاجية مفاجئة لديهم، قد تهدد ضرورة نقاء الإيمان من الاحتجاج أو الشك. إن إنشاء الاطمئنان اعتماداً على هذه الحيز الإيماني الداخلي، يأخذ تعبيرات واسعة في أشكال مختلفة من التدين "البسيط"، ذو الهوية "الشعبية"، والتي تتمثل في تكرار مشافهات دينية، مُعلقه في موضعها إلى موقع قائلها من الغرض الذي يُريده منها، فهي اتكاليه أحياناً، أو ذات طابع تسليمي، أو ربما احتجاجية ومطلبيه؟ فـ (على الله اتكلنا)، و (الحمد لله على كل شيء)، و(الهم يسر لي أمري)، و (ربي أكشف عني همي)، و و و...الخ، هي تأكيدات شفهية يومية توسع دائرة الاطمئنان المحدودة، التي يصعب تعزيزها بوسائل أخرى، في ظل انعدام القدرة المباشرة لدى الأغلب من الناس على تأمين حاجات اليوم المعاش فقط. لكن كون دائرة الاحتياج مفتوحة دوماً، وتميل إلى الاتساع لا التقلص، وحين يزداد الإحساس بالضعف، يميل الناس إلى محاولة تعزيز تعاقداتهم مع "الوعود الدينية"، بما يكفل ترسيخ اطمئنانهم للخلاص الذي تضمنه لهم، أو لكي تضمن منافع مباشره وآنية، أو لتعزيز يقين ما متزعزع، وهذه شؤون مهمة تحتاج إلى أكثر من "التكرارات الشفهية" اليومية. وهنا تُخلق الحاجة إلى "وسيط" أكثر ثقة، تنتمي فعاليته إلى ذات منطقة "الوعود الدينية"، ويتميز باكتمال شروط المعرفة, والتقوى، والقدرة، ويكون منصتاً للاحتياجات، متفهماً لها، وقادر على إنشاء حلول لها, غير مرهونة بوعود مؤجله، أو مُعلقة على صبر مُفترض، كونها لا تحتمل ذلك!
يحضر الصوفي في الوعي العام هنا ضمن دائرة هذا الطلب، ويسوق نفسه اعتماداً على هذه الحاجة الشديدة إليه، ويتم إنشاء تعاقد غالب بين الناس على الثقة به، كونه صاحب "حظوة" دينية استثنائية، مؤسسة بشكل قوي على فكرة "الكرامات" التي كافأه بها الله، على "معرفة لا محدودة "، و "التقوى" و "انضباط تعبدي" و "الزهد" فوق العادة. إن اجتماع الأربعة به (المعرفة، والتقوى، والتعبد، والزهد) هو اكتمال لشروط القرب من "الله"، الأمر الذي يتيح له الحصول على التفضيل الإلهي له بـ "الكرامات"، استثناءاً بين "العباد". وهو الأمر الذي يقرن أفعاله الدينية أو العامة بـ " نفحة المباركة الربانية "، وتصبح " وعودة " أكيدة التحقق، و "رؤاه" بشارةً للخير، أو نذيراً للشؤم، كونها مؤيدة في كل الحالات بـ "معرفة لدنية"، لا يتوفر عليها نظراء "الصوفي" من "المشايخ" و "الفقهاء" التقليدين، الذي أؤكل لهم الوعي العام التصريف اليومي للشؤون اليومي فقط، رغم أن "الصوفي" ينازعهم في هذا الموقع أحياناً، حين يتضخم موقع احد "الصوفيين" في الانتباه اليومي للناس، لشيوع الأخبار عن تقواه، وعلمه، وزهده.. وكراماته بالطبع.
إن جزء أساسي من العناصر التي تنتج الوعي بالصوفي، تكمن في تلقي واسع يؤكد على استئثاره بمعرفة "دينية" و "روحية" مُعقدة، غير مُتيسرة للعموم، أو حتى لصفوتهم التقليدية. إنها معرفة مُعقدة، تتيح له الاطلاع على أسرار مخصوصة، يعجز عن كشفها غيره، كاصطفاء سماوي له لـ "زهده". وهو تفصيل يخلق إغراءاً شديداً حوله، ويحول الانبهار الأولي به إلى حاجه شديدة تعتمد في تصريف ذاتها على حلوله، وتركن إلى مقولاته، والاطمئنان الذي يشيعه. كل هذا يُنشئ له أفعال، ووظائف " خارقة " ضمناً في الوعي العام، تعزز من رفعة موقعه بين "العامة"، فلمسته مباركه، وتكفل الشفاء " الإلهي " مثلاً، خصوصاً حين يعجز الاستشفاء بالبشري،طبعاً هذا يأتي لكونه مؤيداً من "الله" دوماً بإسرار وتفضيلات غير متاحة إلا لمن يحضر "الله" لديه بسره وعلنه!؟ كما انه أيضاً يستطيع أن يكشف ما استتر عن الأخريين، الأمر الذي يكفل له معرفة "سارق" ما، فبصيرته متصلة بالبصيرة السماوية التي ترى ما لا نرى، وهو أيضاً يُقرب البعيد، ويضمن المحبة، ويفك النحس، والأذى، و "السحر"!؟ إنه نموذج مدهش للناس، فهو يبدد خوف الناس من "الغيبيات"، كونه يحتكر المعرفة بها، ويسيطر عليها ضمناً بتيسير رباني. إنه الوحيد الذي يستطيع الولوج في هذه المنطقة المفزعة بإرادته لتيسير المنافع للناس، الأمر الذي يعزز من قيمة أفضاله عليهم، ويعزز أيضاً من كثافة الاعتقاد به، وهو الاعتقاد الذي سينشط من ذيوع أخبار "الصوفي" أو "ولي الله"، ويعمل على تعميمها في دائرة أوسع بين الناس.
إن حضور الصوفي, ورواجه الشديد، يعتمد على استثماره الناجح في الحاجات البسيطة للناس، وعدم تأجيل منافع الإيمان، ولكونه معززاً بالصلة مع "الله"، فعبره يُصبح القرب من السماء أيسر، والثقة باستجابتها أعلى، كون الدعاء أو الحاجة تُصبح مُعلقة بمن أحبه "الله" وفضله، ولم يرد له طلباً. بالإضافة إلى انه يُحضر كمعادل لفكرة الزهد، والزهد معمار للثقة، بالإضافة إلى أن جزء أساسي من تحقق القيمة الإيمانية في كافة الأديان، تكتمل بالاقتران بفكرة التعفف عن الملذات، وإجبار الذات على البعد عن "الدنيا" و تأكيد التعلق الروحي الخالص -غير المرهون بالمنافع الدنيوية، وفي بعض الحالات "المتطرفة" المنافع الأخروية أيضاً، حيث يصبح فعل التعلق الروحي مبني في جوهرة على فكرة المحبة الخالصة تماماً للذات الإلهية - بالدين. وهو ما يتجلى في نموذج "الصوفي" في الدين الإسلامي، و "الراهب" في الدين المسيحي مثلاً.
ينتج "الصوفي" محبين، و مريدين، كما يُنتج أعداء، ومناوئين، يرون فيه على الأغلب "دجالاً" و "كافراً" يطعن في صحيح الدين، وهو عداء يحضر بشده لدى نظراء "الصوفي" من رجال الدين، الذي يرون فيه منازع غير شرعي على "الجمهور"، يقوم بتظليلهم عن "الحق الواضح"، ولكونه ينطلق ضمناً من معرفة معقدة لا يمتلكونها، ويعمل بشكل غير مُقيد مع الناس، فهو يستطيع تجاوز الظاهر في النصوص حيث يقفون ويعجزون، نتيجة ابتكاره لمبررات باطله كما يرون، لا سند لها في "السلف" وفي الأخبار المتواترة عنهم، كما انه يمتلك وسائل أكثر نجاحاً بالنسبة للعامة في التعامل مع الغيبي ومشكلاته، تنتمي إلى ذات منظومة هذا الغيبي، بينما يقتصر فعلهم في ذات الموضوع ضمن شروط، وبوسائل مُقيدة إلى ارث منضبط في المتون المدونة، أو الأخبار الموروثة! كما أنه يستنفر عداء ذي التفضيل "العلمي" في التعاطي مع الحياة، ومع المشكلات اليومية للناس، كونه يُعطل تواصل هؤلاء الناس مع "المعارف العلمية" ، ويعزز من تفضيلهم لوسائل "غيبية" لم يتم التحقق منها، الأمر الذي يعزز من مزاج شائع يمنح الأولوية للاطمئنانات الروحية، بأبعادها الغيبية، على الاطمئنانات التي تؤسسها المعارف والممارسات العلمية، و كنموذج لهذا كما يرون، يحضر تفضيل الناس مثلا للتداوي على يد صوفي حين إصابتهم بإمراض عصبية أو نفسية، رغم إنه يُفترض بهم الذهاب لطبيب نفسي مثلاً!
إن الصوفي نموذج ذكي لأسلوب ناجح في خلق تعاقدات واجماعات عامه حول فرد، وهو فرد يؤسس هذا الإجماع، وهذا التعاقد عليه، عبر الاستثمار في الاحتياجات العامة والبسيطة بشكل ما، وتقديم شكل من المنافع غير المكلفة، والمؤسسة ضمناً على نفوذه في الغيبي، كما انه يعزز كل ذلك لكونه يتداخل مع الرغبة الضمنية للناس في رؤية نموذج زهد اقرب لصورة الإيمان الحقيقي المستبطنة في وعيهم، وكونه يتجاوز شكل رجل الدين التقليدي الذي تقضم من رأسماله الرمزي بين الناس محدودية قدراته قياساً بالصوفي، وعدم اقتران الكرامات به، ولحضور اتهام ضمني له بالتبرير لـ "ولي الأمر"، والانتفاع منه، والانشغال عن الناس إلا في ما ندر.
نشرت في موقع الحوار المتمدن

الجمعة، 8 سبتمبر 2006

الصورة والحقيقة، ما تقوله وما تستولي عليه


ماجد المذحجي
"الصورة قاتلة الواقع"
 بورديار
يحضر أداء الصورة المبهر، ووظائفها الواسعة في الزمن المعاصر، كتكثيف حقيقي لنمط جديد من المعرفة الصورية، ينحو بشكل كبير لإعادة بناء الحقائق ضمن انتظام رمزي تمثيلي مُشاع بشده، وهو انتظام موجه بغرض تسويق الصور لذاتها، وخلق اكتفاء كامل بها لدى متلقيها. يُصبح كل شيء مُدركاً من خلال الصورة التي تمثله، ويصعب تمييز الواقع وتعبيراته إلا من خلال الرموز الصورية، ومن خلال تمثيلات الميديا التي تنهض بوظيفة تكثيف حقائقه، ومعالجتها ضمن الغرض الذي توظف فيه. مُكتفيه بذلك بذاتها، وبقدرتها الهائلة على التلاعب والإبهار، ومُحتكرة الواقع وموظفة له حسب موقع تعبيرها عنه. وبالتالي فهي تتوسط علاقتنا به، وعلاقتنا ببعض، وعلاقتنا بالأشياء، وعلاقتنا بالأفكار التي تُسوقها، وتستولي عليها، مشوشة عبر ذلك على أي تمييز قد نحاوله لمعرفة الأصل من المحاكاة، وخالقه اغتراب دائم عن الحقائق، مانحه من خلال ذلك للتمثيلات شرعية كونها ممتعه، وكافية، ومصنوعة باحتراف كافي للإقناع. تستقل الصورة إذاً عن الواقع الذي يُفترض أن تُحاكيه، فهي تحتوي وتشوش الواقع الذي تنقله، وتتوسط علاقتنا به ضمن تكثيفها المخاتل لدلالاته. ومما يُعزز اكتفاء الصورة بذاتها، وكونها كافيه لكونها موجودة فقط، دون اضطرار لإحالتها إلى أصل يُفصح، أو يؤكد، أو ينقض حقيقة ما تعرضه، تأتي عملية النسخ المتكررة لتعزز من عملية العرض لذاتها، باستقلالية عن كون الصورة - في أهم وظائفها - عملية محاكاة للأصل، ضمن الغرض والوظيفة التي تُنشأ الصورة لأجلها، سواء كان غرضاً فنياً، أو خبرياً، أو توثيقي.. الخ. مؤكده بذلك وبإصرار على كون الحقيقة هي، ولا توجد إلا عبرها، وعبر جمالية العرض والتكرار الذي لا ينتهي. وهو عرض وتكرار يعزز الاستلاب للصورة، واستهلاكها لكونها صورة فقط، وينكر على الذهن أي إمكانية لتفحص أصلها، ومقولاتها الضمنية.
الصورة إذاً تبني شقاً من الحقيقة، وتكرس هذا الشق عبر كافة وظائفها، إن هذا الشق هو الأكثر لمعاناً ومعالجه، وهو الشق الذي يجب تعميمه وخلق التفاف حول تلقيه، عبر كثافة العرض وتكراره في مواقيت مختلفة. وتحضر ضمن فكرة المعالجة المجتزأة للحقيقة، وتأكيد شق أو زاوية منها، الأغراض التي تنهض بها الصورة التلفزيونية.
في الصورة التلفزيونية، وفي جزء كبير أيضاً من الصورة الفوتوغرافية وأن كان بشكل أقل، يتم الاشتغال على شق من الحقيقة، وتكريس الاعتناء بأحد مناطقها، عبر الاشتغال على حجم وزوايا الصورة، وهذا يبدوا بشكل لافت في المتابعات الإخبارية، فحجم المساحة التي تغطيها الكاميرا، والزاوية التي ترصدها خلف المراسل التلفزيوني، يُشير تماماً إلى حجم الحقيقية التي تريد هذا الكاميرا نقلها، أو الزاوية التي تريد منها النظر إلى الحقيقة!!. الصورة مجموعة انحرافات عن الحقيقة، فهي لا تؤكد شيء بقدر ما تتلاعب بموقف وزاوية في الرؤية، ويصبح الإنشاء المرافق الذي يردده المراسل ذو وظيفة واحده، وهو مُعاضدة الصورة ضمن الحقيقية المختارة، ومنع أي التباس يمكن أن ينشأ حول مراميها. في المتابعات الإخبارية لمحطة (الجزيرة) للحرب اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة، أنشأت (الجزيرة) تأكيداً صورياً عالي الإبهار على الحقيقة التي يقولها طرف واحد في الواقع اللبناني والعربي، فهي استبطنت الرغبة العامة في أدائها، وخلقت عبر إيحاء بصري متكرر القيمة الشائعة لإنجاز (حزب الله)، ُمعادية عبر استقطاعات صورية مُعالجه بذكاء موقع الطرف الأخر، اللبناني أو العربي، الذي يميل إلى الخفض من قيمة هذا الانجاز، أو ينفيه كلياً، أو يشير إلى تبعات خلفها. (العربية) لم تخرج عن الإيقاع العام الذي انتهجته (الجزيرة) في معالجتها البصرية للحدث، ولكنها أعارت عدسة الكاميرا قليلاً للمواقع الأخرى المتحفظة على شق الحقيقة المُكرس بشكل عام في الصورة المعروضة، لكن في كل الموقعين البصريين للمحطتين تم اللجوء للتأكيد الشفوي لما يُراد قوله من حقيقة عبر الصورة، لضمان عدم حصول أي انحراف في الحقيقة التي يجب أن يتم استهلاكها. وكانت المُعاضدة الشفهية لنوع الحقيقة في الصورة المعروضة، هو منطقة الاختلاف الأساسية في شكل الحقيقة التي تقولها الصورة المعروضة في المحطتين. في متابعات خبريه مختلفة، تُفصح عن تمايز أوضح عن آلية عمل عرضين صوريين مختلفين للواقع، وتأكيد كل عرض منهما على شق من الحقيقة وتأكيده، يُمكن الانتقال للشأن العراقي. محطة (الجزيرة) فيما يتعلق بالشأن العراقي تميل لجعل مساحة الصورة التي تلتقطها الكاميرا محدودة وضيقه. إنها صورة تتركز تماماً على مشهد الدخان أو العنف أو التعذيب، الصورة لا تتسع أبداً خارج هذا المشهد بحيث يمكن رؤية بشر يمرون بهدوء، وحياة تستمر بجوار العنف. وهي على عكس الصورة في محطة (العربية) حيث المساحة واسعة للغاية مما يموه التفاصيل، ويجعل المشاهد لا يجد بؤرة يتركز عليها الانفعال، وهي صورة دون تأكيدات واضحة على العنف في العراق، بقدر ما هي صورة تنجذب لتأكيد الايجابية السلمية في بناءه الديمقراطي، مع غض النظر عما يرافق هذا البناء من التباسات. ربما تكون مساحة الصورة في محطة (أبوظبي) أكثر اتزاناً حين تتعلق بذات الحدث، حيث يمكن أن نجد العديد من التعبيرات المتجاورة، ودون إفراط يمكن إيجاد عدد من الزوايا في الصورة. إن الصورة تتسع للموقعين بشكل نسبي، وبإطار منضبط ضمنياً لا يُفرط في تبني زاوية واحده، بقدر ما يتنقل بينهما بحيث يمنح خصوصية لصورة (أبوظبي).
الصورة منطقة خلق الدلالات وتسويقها، تتأكد هذه العملية في التقارير الخبرية المصورة، حيث يتركز التلقي بشكل كامل على الصورة، ويدفع الصوت من دلالتها حتى الحد الأقصى. إن التقرير المصور هو تكثيف لفكرة بناء الحقيقة الإعلامية اعتماداً على عدسة الكاميرا وعمليات مونتاجها.. إن الصور المتلاحقة التي لا تتيح للمتلقي عملية التفحص تقوم بتصديع تماسكه، وتبني جاذبيه هائلة تُمحور فيها انفعالات المتلقي حول مجموعة من مقولات الصورة، و حول نمط بنائها، وما تريد تركيز الإشارة إليه، وتكريسه. ويعمل الصوت على إضافة البلاغة الكفيلة برفع عتبة الانفعال، وإلغاء محاولة التركيز، مما يتيح أمكانيه أعلى لنشاط الصور، وبالتالي خلق انحرافات مؤكده عن مجموعة حقائق سابقه، باتجاه حقائق جديدة، تدل نحوها وتؤكد عليها الصورة الذكية، التي تصنعها العدسة التلفزيونية ومن يقفون خلف تحديد زواياها ومراميها.
حين يتعلق الأمر بالصورة يكون الكلام هو الجزء الميت من الحقيقة التي تقولها.......
نشرت في صحيفة النداء

الأحد، 3 سبتمبر 2006

في معنى أن تختار دون أن تُعرض نفسك لابتسامه عمياء


ماجد المذحجي

ستختار الفتيات العابرات أوقاتا غير ملائمة للإثارة
يشبكن شيئا سريا بالمخيلة
ويتركن الكل معرضين لمطامع سرية
يشبه ذلك رغبة شاب ملتح في العبور دون إثارة الشبهات
وغصة مراهقة اعترف لها حبيبها بما ترغب في الوقت الضائع
نعم
هناك دوماً أفكار صغيره تتنطط دون إذن
وعيون تتلصص على أفكار عارية تختبر رشاقتها في نهارات مشمسة
المحزن في الأشياء التي تُثير البهجة لمرة واحد إنها تترك لسعه مره في الذكريات العجوزه
انك ترتكبها دون حذر
وان أصدقائك سيتنكرون لها حين تصر على أنها ذابت في أعصابك
***
ستختار الأشجار التي تُركت وحيده قرب الإسفلت قلب امرأة خطفته ذكريات باردة
عجوزاً يتمشى قرب الأيام الضائعة ويتعكز بالبيرة والكلام
وقطة تركت أخر مواء لها يرتجف قبل أن تدهسها دواليب سيارة
ستختار نجوماً صغيره يخبر العشاق حبيباتهم أنهم سيزينون شعرهم بها
أطفال لا يخبرون أمهاتهم عن البقع الصغيرة التي يخلفها الكاتشب على قمصانهم
وضحكة أوقعتها صبية قبل أن تغلق شباكها على عيون تتلصص من النافذة المقابلة
ستفعل ذلك حين تترك يديك في معطفها
حين تغادر دون أشيائك الحميمة
وتلصق دمك بمحطات باردة
***
ستختار الغائبين
أن تترك عائلة موحشة وأحزان تثقب منامتك
ذنب معلق على عنقك كالقلادة، وأوقات تكون فيها السباق إلى الأخطاء
لامبالاة تدخن التبغ والقلق، وأوهام تعزيك بالصعود كلما كسرت عنقك وأنت تقع
انتظار يملأك بالغباء، وأيام فائضة لا يمكن أن تعدها دون أن تقع أصابعك
ستختار نفسك وتبلل صورة من خذلتهم بأمنيات أخرى
ستركن التعازي قرب وجهك الذي أنكرته
وبالشجارات المتبقية لديك ستستأنف ترويج أفكار ملدوغة عن الحب والحزن
ثمة متحف سيضم ثرثرتك ذات يوم
ودون مشاهدين ستكون عرضة للظل كما تشتهي
لا عادات سريه يمكن إخفائها حين ذلك
وبعينين فاجرتين ستختار أن ترثي العالم دون أن تحتاج لأن تحدق فيه
***
ستختار تمارين سهله لا تتعلق بالحنين فقط
بعضها سيكون مخصصاً للحب، والأخر للنسيان
ذكريات سهله يمكن دفنها في اقرب حديقة
وأصدقاء يمكن أن يستمروا بأعمالهم دون أن ينزعجوا من كونك سافل
امرأة خرقاء تقبل بأطرافك المقصوصة، وصديقات تضحك الشموس لخطوتهن
منازل دون شبابيك.. حيث لا يمكن لأحد أن يراك وأنت تفتت راسك على جدرانها
وقهوة لا تدفعك لأن تصحو
جوارب نسائيه تعلقها على حبل الغسيل كي تكايد جارتك الغبية
وشتاء لا يبلل ملابسك
ستختار الصمت حين تُصاب بالبرد
أفكار مشرقه عن الانتحار و جدران مخدوشة الوجه
ابتسامه رديئة يمكن توزيعها بسهوله على العابرين
وديون لا يتساءل أصحابها عن أسباب إنفاقك لها
ارض فارغة يمكن لك أن تتلاشى فيها دون أن تنفق الكثير من الموت
وغرباء لا ماء في عيونهم
***
سيختارون أعياداً أرخت بابها لألوان متشابهة
وسيحرصون على احتمال أخطاء لا ترطن بلهجة غريبة
دون إصرار سيتشابهون مع تلك الأشياء التي تشعل أحزان الغرباء
ولن ينتبهوا أن هناك أحزان مثقوبة العينين تضيع في الصفير الشتوي
إذاً
سيختارون عزلتك كي ينقرونها في منتصف هشاشتها
سيختارون عنادك كي يتمرنوا عليه
ما توقعه حين تدلف إلى الحانات خائفاً من أن ينتبه أحد ما إلى لونك
وصوتك الهزيل حين يختنق في المسرات الصغيرة التي تتركها النساء على بابك
ضعفك حين ترتكب الخيانات أو المحبة
وشهوتك حين تنام في أحداق فتياتهم

 نشرت في موقع ألف للحرية
http://aleftoday.info/node/2180

الاثنين، 7 أغسطس 2006

عن حرب للكرامة لاتدل الضحايا على معنى للموت

ماجد المذحجي
للحرب سيقان طويلة يُمكن بها أن تتنطط كما تشاء من شاشة إلى أخرى. إنها ممتعه، فهي جزء من الصورة التي تثير الانتباه وتشغل الفراغ، وتُمكن المرء أيضاً من ترك الاخرين يلعبونها، ويحصدون الانتصارات فيها لنا ولهم، مع الاحتفاظ بمسافة كافيه من الآذى الذي يمكن أن تُلحقه. نحضر فيها كصوت عالي يشرح، أو يبرر، او يتعاطف، او ينفر، او يكره، أو يفرح.. مُكثفين كافعال صوتيه وانفعاليه صرفه مُغلقه على لغة تحتفل بالموت باصرار. إن " الحرب سهله على المتفرجين "، وليس لمشهد طفل تنتزع جثته من تحت الركام سوى ان يرفع من كثافة الشراكة في لغة موحده لاتراه سوى شهيد فقط، وليس طفلاً فقد فرصة في حياة جيده. ومشهد البنايات والاحياء والقرى المدمرة يمكن تجاوزه بسهوله، في ظل تناظر مشوش ومختل يساوي بين قيمة الضرر الذي يتضمنه هذا المشهد، والصوت العالي الذي تحدثه صواريخ هزيله تقع قرب ملاجئ حصينه مسجله انتصارات معنوية في عمق ( العدو!! ). الابنية الجميلة، والمدن المخططه جيداً، لاتعني شيئاً في معادلة لاتحترم سوى فكرة تأكيد الاجماع على دعم الحرب وتفرعاتها من موت لاطفال، ونساء، ورجال، وشيوخ. ودمار لمدن، وابنية، ومستقبل، واستقرار، واطمئنان، كونها الطريقة الوحيدة لاسترداد الذات، وتأكيد حقيقة كونها موجوده عبر بصمة الدم والخراب فقط!. ليس للأسمنت، والكهرباء، والطرق، والحدائق، واطمئنان البشر، وكل تعبيرات الحياة المستقره، موقع أمام صلابة فكرة الكرامة العارية والمؤيده بجباه مرفوعه وصدور مفتوحه لاستقبال الموت. وهي صدور نراها في الصورة، ونبرع في حماية القيمة المعنوية التي تنتجها تضحيتها عنا، وفي تشجيعها على الثبات امام قنابل ذكيه تزن مئات الاطنان!!. إن تلقي الحرب في صورة يكثف السخرية من قدرة الصور على تمثيل الاشياء باستقلاليه هائله عن ضرواة ماهي عليه بالواقع. والواقع الذي تنتجه لايلقي باعباء على المشاهد أكثر من الغضب، أو الانفعال، او حتى البكاء. وهي تفاصيل لاتحتاج لطرق ممهده يمكن الفرار عبرها من القصف، أو ادوية للتداوي من الجروح، او (مازوت) لتشغيل مولد الكهرباء في مستشفى يخدم عشرة الاف نسمه او يزيد.... الخ. تبرع الحساسية امام هكذا صور في انتاج انفعالات رديئة فقط، قد تتعدى الصراخ نحو اسئلة ساذجه، اسئله لاتلتفت لتفحص كم هو ضئيل الانتصار لموقع مسؤولية الحفاظ على الحياة والاستقرار وعدم فتح الباب للخراب والموت امام الانتصار لفكرة الصمود والمقاومة والكرامة.
هل يشاهد القتله عيون ضحاياهم؟؟. سؤال ساذج يحاول أن يتفحص به الكثيرين موقع القاتل من ضحيته.. وجزء اساسي من غبائه انه يتجاهل فكرة الموت كخلفية عمياء تدير علاقات القوة المؤسسة على حق غير مقيد. و هو سؤال يتجاهل الرغبه الجماعيه الملحه في استبدال الموقع، والرغبه في ان نكون الطرف الاخر بكل امتيازت القتل والقوة التي يمتلكها. نعم ان القاتل يمكن أن يتفحص عيون ضحيته دون أن يُصاب بالارق، وأن يبتسم لها أيضاً قبل ان يلقي بها إلى الجحيم او للفردوس فلافرق لديه. فارتكاب فعل القتل المنظم هو فعل غير مؤسس على احترام قيم الحياة، والقله ممن يمارسونه يستبطنون شكاً اخلاقياً فيما يفعلونه. ليست المشكله هنا، بل في تجاهل " المناضلين " لكون الدم ضريبة فادحة لايكفي أن تبررها بعلم يرفرف. علم تُكثف فيه فكرة كرامة وانتصارات وهمية لا تقدم سوى خدمة لخصم متوحش استساغ وهن الحياة لدينا وانخفاض قيمتها أمام بلاغة الشعارات.
إن القتل فعل مغري، ويحول البشر إلى آلهه مكتملين يهبون الموت وفرص الحياة.. والآلهه الموجودين أمامنا في الصور، هم اولئك الذين يستطيعون بسهوله مستفزه ان ينقروا على احد المفاتيح ملقيين بكميه هائلة من الموت على بشر نائمين، بينما يمسكون بيد اخرى ميكرفوناً غبي يلقون به المواعظ التي يجب ان ننصت لها عن حياتنا التي لن تتحقق إلا بالموت!!. بعضهم ملتحي، والاخر حليق الدقن والشوارب، احدهم يرتدي عمامه والاخر بدله وكرافته انيقه. آلهه بلغات مختلفه، ولكنها تتشابه باصرار في قدرتها على القتل وتبريره بالحياة!!. لبنان بلد يموت، ولايمكن الركون بسهولة لتعزية النفس بقدرية الصمود السخيفه، فالحياة تنتزع من اجساد البشر هناك بسهوله تشبه اشعال عود كبريت، والتعويل على صراخ الكرامه المفترضه وقيمتها بالنسبه لنا، هو فعل لايحاول أن يفهم فكرة ان الاجساد المثقوبه لا تستطيع ان تسمع هذا الصراخ جيداً. والشيء الوحيد الذي يمكن ان يُنصت له البشر في الحرب واثناء القتل هو الدعوة لانهاء كل هذا الخوف والدمار، وعودة الحياة هادئه ومطمئنه كما كانت. نعم، من المفزع أن لاصوت للحياة امام لغة موحده للموت، تبجله وتعقد الآمال على انتصاراته.
نشر في منتديات حوار

الخميس، 13 يوليو 2006

«ميونيخ» لـ ستيفن سبيلبرغ.. فيلم سينمائي يشكك بمشروعية القتل


ماجد المذحجي
هل يمكن لموت أحد ما أن يكون منصفاً، وحين يُلقي الضحية التحية ويتمنى للقاتل الذي يشاهده للمرة الاولى والاخيرة ليلة طيبة بعد ان يتحرش به بحديث عابر هل يستطيع القاتل أن ينام مطمئناً؟. والقتل كفعل ينتزع من الحياة اطمئنانها هل يجد جذوراً كافية لتبريره في الانتقام وفي كون الاخر يرغب بمحوك عن الوجود وآذاك علناً؟..
ربما هذه هي الالغام الاخلاقية باسئلتها الحاده التي يمكن ان تعلق في الذهن بعد أن تنتهي من مشاهدة الفيلم الاشكالي الاخير للمخرج الامريكي الشهير ستيفن سبيلبرغ الذي اثار عاصفة منذ عرضه كعادته في مجمل افلامه، ورغم كون ستيفن سبيلبرغ ذو خلفية يهودية، ويقدم فيلماً عن تجربة اسرائيلية في الانتقام، تتعلق بحادثة هجوم ميونخ الشهيرة الذي نفذه فلسطينيون من مجموعة "أيلول الأسود" ضد مقر الفريق الرياضي الإسرائيلي في أولمبياد عام 1972. وهو الهجوم الذي قتل فيه رياضي ومدرب إسرائيلي خلال الاقتحام، واحتجز تسعة كرهائن طالبت المجموعة بمقايضتهم بسجناء عرب، لكنهم قتلوا خلال عملية إنقاذ فاشلة. وسلسلة عمليات الاغتيال التي قامت بها الموساد للانتقام وتصفية كافة المشاركين الفلسطينين سواء بالتخطيط للعملية أو بتنفيذها. لكن على الرغم من استغراق الفيلم في شأن موجع للذاكرة الاسرائيلية قد تدفعه لاستحضار خلفيته اليهودية في محاكمة الموضوع لكنه تجاوز هذا في هذا العمل الرائع، ولم يُغيب عنصر الفنان ذو الحساسية المستقلة المعادي للرأسمال المتعصب ووظائفة، وهو الشأن الذي يحضر كضابط مهم في إدارته للفيلم بعيداً عن تجاذبات العصبية الدينية أو القومية، والذي خفض به بلاغة الانتصار لصالح تفحص ذكي لاسئلة تتعلق بمشروعية القتل - بغض النظر عمن يقوم به - ومدى الملاءمة الاخلاقية التي تكفلها الاسباب التي تبرره جوار الفداحة الهائلة التي تقود لها نتائجه. وإن كانت هناك مشكلة لايمكن تجاوزها، فالعنصرالاسرائيلي في الفيلم يجد الفرصة الكافية للتعبير عن انسانيته والافصاح عن ضيقة الاخلاقي بما يقوم به، بينما لم يحظ الطرف العربي والفلسطيني، بأي فرصه ليتحدث او يبرر ما يقوم به مما جعل موقفهم معلقاً على تقدير المشاهد فقط!!.

كونك يهودياً يكفي لان تقتل عربياً.. والعكس أيضاً!!...
منذ المشهد الاول في الفيلم والذي يبدأ بقيام مجموعة من الناشطين الفلسيطنيين باقتحام مقر البعثة الاولمبية الاسرائيلية واختطافهم ومن ثم قتلهم لـ 11 رياضي اسرائيلي ومقتل الناشطين اللاحق، يُصعد الفيلم لمدة ساعتين وأربعين دقيقة عبر كاميرا سينمائية شديدة الاناقة في حركتها الاحساس بالتأذي من القتل. تُثير اللقطات الاولى التي يُحتجز ويُقتل فيها افراد البعثة الاسرائيلية احساساً متبايناً بموقعك من الواقعة، ويستيقظ ضمناً فرز عصبي يدفعك للتفتيش عن اسباب تبرر لمن قاموا بها ذلك حين يؤذيك مشهد القتل المصنوع باحتراف عال، خصوصاً حين يترافق ذلك من ما تظنه ارتفاعاً في النبرة اليهودية للكاميرا على حساب النبرة العربية او الفلسطينية. ويُعزز سبليبرغ ذلك الارتباك الشخصي حين ينقل الكاميرا لتتفحص ملامح واصوات وانفعالات المتابعين العرب والاسرائيلين امام الشاشات، مُحيلاً المتابع لمشهد واسع تتنافر فيه الهويتين في تأكيد كل واحده منهما على حقها فقط بالحياة واستحقاق الاخرى للموت. يضخ المخرج منذ البداية عنفاً ذكياً في الصورة، وإن كان رغم حدته غير مفرط في دموية عبثية رغم امتلاء الواقعة الحقيقية به. وعبر ايقاع عال يستمر لدقائق عده يشدك فيها لمتابعة احداث ميونيخ الشهيرة التي تحضر فيها بشكل عال مفردات النضال، والرصاص، والهويات العصبية، والتي يسيطر الغموض على مبرراتها الاخلاقية. تقوم الكاميرا فجأة ببتر انفعالك وخفضه لصالح مشهد اخر اقل ضجيجاً، ينتقل به من قلب ميونيخ الالمانية إلى قاعة اسرائيلية يتم فيها التخطيط من قبل مسؤلين استخبارتيين وسياسيين للتخلص من 11 قيادياً فلسطينياً للانتقام للـ 11 اسرائيلياً. ومن هنا يبدأ سبيلبرغ بناء احداث الفيلم التي ستعتمد على اوامر الموساد لمجموعة من عناصرها بتنفيذ الاغتيالات للانتقام متلاعباً طوال الفيلم وبشكل مثير للاعجاب بالفكرة الاخلاقية الرديئة " السن بالسن والعين بالعين " كمبرر كافٍ للقتل.....

فرد يأتي للحياة واخر يأخذه الموت.. من يُقرر الحق بذلك؟؟...
عمل سبيلبرغ بشكل متميز على جعل أحد تاكيدات الفيلم الاساسية تتمحور حول فكرة استبطان الفرد القدرة على انتاج الحياة وسلبها أيضاً، وعلى الخيط الرقيق الذي يفصل بين التبريرات الاخلاقية للقيام بأي فعل منهما!!. تم ذلك عبر اشتغال السيناريو والكاميرا على مشاهد يتم فيها دفع التقابل بين الموت والحياة بحده، فحين تتم تهنئة أفنار (إيريك بانا) بمولودته الجديدة تتم تهنئته أيضاً بنجاح عمليته وموت الهدف الثاني (محمود الهمشري). و(وائل زعيتر) الذي قتل بالمسدسات امام المصعد وكان ممسكاً بقنينتي النبيذ والحليب. التقابل بين الولادة والموت، والمسدسات وقناني الحليب والنبيذ هو افصاح شديد الذكاء لمدى التشوش الاخلاقي للانسان حين يستطيع ان يمنح الحياة ويسلبها، وحين يستطيع أيضاً الامساك بيده بمفردات للقتل واخرى للحياة. تم الاشتغال بخفة على رمزيات بصرية عالية المستوى تُحيل المشاهد لحجم تورط كافة عناصر اطراف القضية في الخسارة حين تستولي على تبريراتهم بلاغة الهوية وعصبيتها الدموية، والتشوش الذي يلحق بقرارهم في كون أي طرف كان يستحق الموت لمجرد كون تحقق هذا الفعل يكفل تعزيز قيمة حياته او قضيته، فلايمكن ان تنتصر القضية الوطنية الفلسطينية او لفت النظر لها بقتل الرياضيين الاسرائيليين، ولايمكن التأكيد للعالم على قيمة اليهودي أو اهميته بقتل الفلسطينيين. كانت الكاميرا ذكية وهي تتسلط على مفاجئة عميل الموساد لكون الفلسطيني مثلاً يمكن ان تكون له فتاة صغيرة تهوى الموسيقى وتعزف على البيانوا. او وهي تتابع فلسطيني أخر ينفح البائعة الايطالية العجوزة بقشيشاً أضافياً ويبتسم. لم تنكر الكاميرا تشوش (أفنار) الاخلاقي امام قيامه بفعل القتل، حتى وأن كان يقوم بهذا بغية الدفاع عن الامة اليهودية ضد اعداء يريدون محوها والقائها بالبحر، بل قامت باستثمار هذا التشوش كخلفية لسؤال الفيلم الاساسي الذي انتصرت له الكاميرا والنص في تسلطيهما الضوء على اعتماد (أفنار) وزملاءة على البلاغة الصوتية العالية لحق اليهودي في العيش حين يحاجج ضعفه الذي يُغذى من كون القتل بهذه الطريقة لن ينتهي أبداً، وان فكرة " سنظل نقتلهم إلى الابد " لاتكفي لصنع السلام الذي يرغب به لضمان ان تعيش طفلته وزوجته بامان.

الجنس يكفي لجعلك حياً...
حين مارس (افنار) الجنس مع زوجته الحامل في أول الفيلم، وفي اخر ليلة قبل ذهابة للعملية كان يتمسك بكونه حياً وانسانياً للغاية. وحين قالت له زوجته (انا لست زوجة البطل الجيدة) كانت تُقر برغبتها الاحتفاظ بضعفها امام بلاغة القضايا السامية. وحين مارس الجنس معها في نهاية الفيلم عندما عاد إلى المنزل في حي بروكلين بنيويورك كان يختلط بلهاثة وتعرقه اخر الصور من عملية ميونيخ حين قُتل الناشطيين الفلسطينيين والرياضيين الاسرائيليين وهم يصرخون ويتعرقون أيضاً. كان يريد ان يعود حياً.. وكلما استغرق في الممارسة معها استغرقت الحياة فيه وطردت اسباب الموت. وبين الحياة في بداية الفيلم و الحياة في نهاية الفيلم كان الموت يُغرق كل شيء في الوسط. إنه موت كثير، وحتى عندما حاول أن يهرب منه إلى الحياة.. إلى امرأة في بار الفندق تركت عطراً على ذراعه لم يستطع، وكان الجنس مفتاحاً للموت هنا لا للحياة، اوقع صديقه في حين انقذه الحظ. ذات المرأة حاولت ان تستعين بالجنس لكي تحتفظ بالحياة حين قدموا لقتلها والانتقام لصديقهم. ارخت روب نومها ليبدوا جسدها عارياً وقالت لهم: (ستضيعون عليكم هذه الموهبة). ولم تنجح بذلك، كانت تقصد موهبة الحياة بالتأكيد.

عن كون ستيفن سبيلبرغ صانع سينما عظيم
استطاع ستيفن سبيلبرغ أن يوظف حدثاً مهماً كعملية ميونيخ دون ان يقع في فرز تبني صوت واحد او رؤية واحده، وهو الامر الذي كان سيوقعه في استقطاب ايديولوجي يدفعه بعيداً عن موقع المخرج الفنان ذو الحساسية المستقله نحو موقع المتعصب بوظائفة الدعائية. فانقذ الفيلم من التورط في اسباب الصراع لصالح تفحص مايُحدثة من شروخ في الاخلاقيات حين يتم استخدام أي مبررات ينتجها لشرعنة القتل. ميونيخ كان الحدث الذي استثمر في صياغة فيلم ذو قدرة تشويق عالية وبمزاج يميل بشكل حاد إلى توغلات ذات طابع نفسي واخلاقي، مع تحرر كامل من فكرة الوصول إلى اجابات أو تقرير نتائج في النهاية. كما سيظل ستيفن سبيلبرغ قادراً باستمرار على تاكيد كونه مخرجاً متميزاً من الناحية الفنية عبر اخراج شديد الاناقة تبدى في الاسقاطات البصرية لافكار شديدة الرمزية بشكل مبدع، وفي إدراة متميزة للاحداث والشخصيات تتضح عبر التقطيع المتميز لوقائع عملية ميونيخ ذاتها على طول الفيلم وعدم ضخها دفعها واحده في البداية ليجعلها حاضرة في استدعاءات ذكية لتسند التصاعد في الاحداث او في الاداء. و لايمكن ان يغيب عن الانتباه ابداعه لصورة سينمائية استطاع ان يجعلها تنتمي بدون أي تكلف لبيئة الحدث وعلاقاته بالمعنى المكاني والزماني أيضاً، وهذا يتضح في استخدامه المتميز لعناصر الاضاءه والالوان. هذا إذا تجاوزنا الحديث عن حقل تميزه وابداعة كمخرج اشتهر في صناعة التقنيات السينمائية شديدة الاتقان، والتي استخدمها هنا في مشاهد الانفجارات ومعارك الشوارع والقتل.
نشرت في صحيفة النداء