الخميس، 19 أبريل 2007

في هجاء الإحتياج لمناضل، وربما في وصف الإحتياج له!!


ماجد المذحجي
لفترة طويلة نسبياً من حياتي الشخصية، استهلكني تضخم نموذج المناضل، وتلك المجموعة المتناظرة من التوصيفات، والإحالات، التي تستمد حضورها من قيمته البلاغية المتعالية، ومن تمدده الصوتي، والتي تجد تكثيفاً لها بشكل ما في كلمات مثل: الثوري، والمتمرد، والبطل، والرمز (الوطني، أو القومي، أو الديني، أو الأُممي). بكل الشغف الذي تثيره مُطلقات " رومانسية " حرضها هذا النموذج لديّ، واستولى بها على تقيمي النظري للأشياء، وطبيعة انفعالي بها. مُعزِّزاً بشكل حاد، تعاطفاً مسبقاً، وتلقائياً، مع كل ما ينتمي لحقل هذه القيمة " النضالية "، من مفردات، وأفكار، ومواقف، وتجارب!. وهو تعاطف ينشط بشكل أساسي - وشبه دائم - على حساب الفعالية النقدية للفرد، ويُفرمل أي انتباه، أو تفكير مُستقل، ومتخفف من ثقله؟!.
تغذى هذا النموذج في تجربتي الشخصية -وبشكل ما لدى تجارب الكثيرين، ممن نتشارك في ذات حقول الاهتمام والرغبات- على احتياجي الصامت لتفصيلين: الفرد الايجابي المُبادر تجاه الواقع، وغير المستسلم لرداءته، والملتزم بالسعي لتغييره. وتطابق هذا الفرد مع قيم: الوطنية، والشرف، والنزاهة، والإنكار للذات!. وهما تفصيلان ينتميان بشكل كبير، إلى المآثر القصصية المتواترة، عن الأبطال التاريخين للذاكرة الجماعية، التي يتم سردها، وتثبيتها في وعي الأفراد، عبر مرويات، تاريخية، ودينية، وشعبية، ورسمية متكررة، تم التعاقد على صوابها وحقيقتها، وتم الإجماع القطعي على ضرورتها، وأهمية تعميمها، لتتحول إلى قيمه مرجعية لهم، رغم تعاليها عن واقعهم!. بالإضافة إلى تغذي هذا المناضل على ما أسلفت. اتسعت دائرة التخييل، والتعاطف الشخصية، التي تحمي قيمة هذا المناضل، و" تُزينه " بالنسبة لي، بالإتصال النظري والشخصي مع تجربة اليسار، والتصاقها الحميم بفكرة الثورة، ونموذج التضحية، والتمرد على القيم المحافظة. وتعزيز اليسار لقيمته النظرية، برأسمال رمزي مهم، صاغه بشكل أساسي " مناضلون " مسلحون، دفعوا " دمهم " لتأكيد هذه الرمزية، ويبدو أبرزهم هنا، وأكثرهم إلحاحاً كنموذج لذلك "جيفارا". ولكن بالطبع لا يمكن تجاوز مناضلين " مدنيين "، لم يستخدموا " البندقية "، ولكنهم " بذلوا " الدم، مثل فرج الله الحلو، والمهدي بن بركة، ومحجوب. بالإضافة إلى تميز جملة " اليسار " النضالية بأنها غير عنيفة كلياً، أو مستنده بالخالص إلى تعبيرات القوة، حيث عُمم عن اليسار كثيراً فكرة كونه حاضناً للتعبيرات الثقافية " النخبوية "، ذات الطابع المغامر والمتمرد على القوالب والصيغ السائده. وهذا شأن كان يؤكد عليه، بالإنتماء الكثيف من المثقفين، والفنانين، والمبدعين من كل المستويات له: (مارسيل خليفة، سميح شقير، احمد قعبور، مظفر النواب، صادق جلال العظم، الطيب تيزيني، حسين مروة، مهدي عامل، محمود أمين العالم، سمير أمين، الشيخ إمام، احمد فؤاد نجم، صنع الله إبراهيم، قاسم حداد، فالح عبد الجبار، أميل حبيبي، سعدالله ونوس... الخ). وهو شأن رتب تصور شائع بشكل ما - وفي العالم العربي تحديداً - عن ضرورة كون المثقف يسارياً!. أو أن يكون انتمى لخيارات اليسار، وموقفه السياسي، و الإجتماعي، والثقافي لفترة من حياته؟!. ويحضر هذا الانطباع بشكل ملح، حين يتم تلقي مثقف ذو نبرة اعتراضية واضحة، نافره عن الإجماعات العامه، والسلطوية، ومسكونة بمطلبية تغيرية، حتى وإن كانت غير واقعية في بعض الأحيان، او في الأغلب منها!. حيث يتبادر الشك مباشرة لدى الكثيرين بأنه ذو خلفية، أو هوى يساري؟. وان كان المثقف ذو المزاج الليبرالي حالياً، الذي لم يشكل ارثاً سابقاً في الذاكرة الجماعية، بدأ يُزاحم " اليساري " في هذا التوقع، ويفكك احتكاره لهذا الموقف النقدي من المجتمع، والأفكار، والسياسة. رغم أن أي اقتران قد يحصل بين أي مُثقف والانتماء النظري لليبرالية، ومايستدعيه ذلك الإنتماء من تمايز في المواقف، وطبيعة الرأي في الأحداث، عن ماهو مُعتاد، يخفض من قيمته بالنسبة للطبقة السياسية والثقافية، التي يحتكرها اليساريون، والقوميون، والاسلاميون. وبشكل اقل بالنسبة للعموم. بل و يُشكل مُبرراً مُلحاً في بعض الاحيان - في حال الاختلاف حول الاولويات الوطنية مع " المثقف الليبرالي " - لاتهامه بـ " العماله "، والتواطؤ مع " الاستعمار " و" الامبريالية "؟!، بشكل تعميمي فاسد، مبني على الذعر الأعمى والمرضي من " الغرب ".
ومما ساهم في تعزيز " وصالي " الحميم مع نموذج المناضل، وأفكار الثورة، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، وغيرها. أنني انتمي إلى آخر جيل على علاقة - ولو كانت واهنة، ومليئة في بعض مستوياتها بالإرتياب - مع حقب المشاريع الكلية، والنظريات الكبرى والجماعية، والنضال الثوري، والتضامن الأممي بين " المستضعفين "، التي استولت على ثلاثة أرباع القرن الماضي. رغم أننا بالطبع، نعتبر ضمن الحاضرين على أنقاضها تماماً، بالمعنى الحقيقي والزمني، حيث كنا شهود عيان على تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار المعسكر الشرقي ومنظومته الاشتراكية، وعلى أفكار صادمة مثل " نهاية التاريخ "، وتزعز نموذج الدولة القومية، وتلاشي حدودها، ورأينا الحضور الاجنبي المسلح والكثيف في المنطقة العربية، في حرب الخليج الثانية 1991م، وفي السنوات التالية لها، بشكل مُعلن لأول مرة، منذ نهاية حقبة الغستقلال في عقد الستينات، و، و، و.. الخ!. إلا أن حضوره الرمزي (أي المناضل) كان مازال فاعلاً في الكثير من التفاصيل على المستوى النفسي واليومي. حيث كنا قريبين من التجربة الشخصية المباشرة - ذات البعد النضالي، بحسها الإعتراضي والبلاغي والرومانسي العالي - لجيلين، أو ثلاثة أجيال سبقونا، وتفاعلوا مع هذه المشاريع والنظريات بحدة. بكل ما يتركه ضغط هذه التجربة من إرث عاطفي، وذكريات متباينة عنها، ومواقف سلبية وإيجابية. وبنموذجهم الشخصي والنفسي الملفت، والمتغاير عن قياس اجتماعي موحد لنموذج الفرد، وبتباينات محدودة فيه!. وطبعاً، بكل الإغراء " النضالي " المحبب فيه لنا، خصوصاً في فترة المراهقة المليئة بالاندفاع، والمشدوهة أمام فكرة المغامرة، والإعتراض على المجتمع، والأسرة، والتدين، والتربية المحافظة. وهو الشأن الذي ضغط بشكل كبير على تصورنا " الذهني " للفرد الذي نريد أن نكونه. وساهم أيضاً، وبشكل كبير، في صياغة موقفنا من العالم، ونمط تفكيرنا، وأشكال استجاباتنا، وطبيعة المفاضلات والإختيارات التي كنا نجريها. ورتب لاحقاً انتماء سياسياً - عاطفياً وليس تنظيمياً، فلم نمتلك الجرأة على ذلك في أول الأمر، نتيجة العديد من العوامل الأسرية والعامة! - محكوماً بضرورة الانتماء للحزب الأكثر " ازدحاماً " بالمناضلين، والذي يسوق نفسه بشكل غير مُعلن اعتماداً على هذا الرأسمال المغري لفكرة النضال، والذي يحتكر الحق فيه، وفي قيمته الأخلاقية في المجال الرمزي، والمجال السياسي (يُمكن استحضار الحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، كأبرز فاعلين يتنافسان على استثمار النضال، وأدبياته، ورمزيته في المجال العام،استناداً إلى تجربتهم " التاريخية " في العمل السياسي، والأيديولوجي، والثقافي، ضمن نشاطهم في مواجهة السلطة في شمال اليمن قبل الوحدة -بالطبع ليس الحزب الاشتراكي بمجمله، بل تحديداً الامتدادات التنظيمية السرية منه في الشمال- والتي تضمنت تعميداً للنضالية بضريبة الدم. (وهي ضريبة شديدة الفعالية في تعزيز قيمة نضالهم، وتأكيد مصداقيته).
هذا الانتماء العاطفي للسياسي، وغير الملتزم تنظيمياً في الكثير من الأحيان، كان في أحد مستوياته رغبة في الانتماء لأب أيديولوجي خيّر، وإيجابي، ومتعاطف مع نزقنا وتمردنا، يُحرر الفرد " المراهق " الذي كنا، من " كراهيته " للأب البيولوجي، المحافظ والمهزوم في تجربته السياسية أو الحياتية، والذي قمع نزقنا واعتراضاتنا، سواء بالرعب الذي يحمله من السياسة، أم لتفضيلات براجماتيه دائمة الإلحاح عليه، وطويلة الأمد، ربما يُفسد هذا النزق، والتمرد غير " العاقل " حدوثها، وبالتالي التكسب منها؟!. ولهذا سيصبح نموذج الأب الإيديولوجي " المناضل " في الحزب، ذلك الأب الذي لم ترعبه السياسة، أو تهزمه ضريبتها الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية - في مستوى ما فقط لم تُرعبه، وليس بشكل مُطلق، فمامن فرد في هذا المجتمع لم يُصبه شيء من الذعر، ويُفسد اطمئنانه، بسبب المطرقه الأمنيه المتوحشه، التي هشمت الصيغة الوطنية في الجنوب والشمال، خصوصاً في عقدي السبعينات والثمانينات - والذي كنا مأسورين بنموذجه. هو تعويض عن الأب البيولوجي الذي حاصر شغبنا، وحيويتنا، وحرس علاقتنا معه بحذره، وتقريعه القاسي المتواصل. كما أن إعادة إنتاجه للمؤسسة والفرد الأمني اللذين قمعاه، والتسلط الاجتماعي المحافظ الذي حاصره سابقاً، وأفسدا تطلعاته حينها، واحتكاره القطعي أيضاً لفكرة الصواب، وهو الإحتكار المحمي في جزء منه بالتأديب والقمع النفسي المتكرر في مواجهتنا، خربت علاقتنا معه، وعززت ذعرنا منه، ونفورنا من تقييماته، وعواطفه في بعض الأحيان!.
كان الأب البيولوجي أباً مُنفراً ومتسلطاً (بالنسبة لتلك المرحلة من المراهقة)، استعار الكثير من الأدوات القمعية للسلطة في إطار ما يظنها التربية الأسلم لنا، وتناغم بذلك مع كل ما كنا نظنه سلبياً، او هو كذلك بالفعل سلبي، ولم يستطع في الكثير من الأحيان تفهم احتياجاتنا البسيطه، أو الإنصات لها، كان مسكوناً بالصرامه، وبضرورة أن نتخلص من " سذاجتنا "، و" بلاهتنا "، وهو شأن سحقنا بالمعنى النفسي، وجعلنا هشين وضعفاء، مُربكين أمام الحياة، وخائفين منها، وهو أمر على نحو ما، وخارج إرادة هذا الاب البيولوجي، عزز من ولعنا بفكرة المناضل، واحتياجنا لها، لترميم ضعفنا بها، وتجاوز الواقع المحاصرين بإحساسنا بالهشاشة أمامه، نحو ذلك الرمز المطلق و " السوبر " الذي يُمثله المناضل والثوري!
نشرت في صحيفة النداء
http://www.alnedaa.net/index.php?action=showDetails&id=1082

الخميس، 5 أبريل 2007

الاستثمار السياسي للتكفير


ماجد المذحجي
أيقظ " التكفير " الديني الاخير، الذي بادر به الشيخ/ عبدالملك التاج، نائب رئيس قسم التزكية في جامعة الايمان، لمجموعة من الناشطين (امل الباشا، ومحمد المتوكل، والوادعي، وغيرهم) ذعراً صامتاً وحاداً لدى كثيرين، يخشون تماماً استعادة " زمن " مُثقل بالحراسة " الدينية " للفضاء العام، ضمن توظيف سياسي "سلطوي"، يُحاصر الفعالية المدنية والسياسية والثقافية - ذات الصيغة المطلبية والتغييرية - للافراد، والمنظمات، والاحزاب، بهذه الادوات الخطرة، وغيرها، والتي منها هذا الاستدعاء المفاجئ لأدوار " التكفيريين " الذين صمتوا لوقت معقول، ولظروف كثيرة (منها الانتباه المتزايد تجاههم منذ مقتل جارالله عمر، والعين الامنية الامريكية التي تتفحص تحركاتهم، وصلاتهم التنظيمية، أو الايديولوجية، مع القاعدة). بالاضافة طبعاً للتضييق الامني المتكرر، الخارج عن القانون، ومُصادرة الرأي المختلف، معنوياً وقانونياً، بسهولة " مُزعجة " يُتيحها الاحتكار السلطوي لتوصيفات الوطنية، والانتماء، والشرعية.. ولمؤسسات الدولة أيضاً!!.
لا يُغادر هذا الفعل ما هو مُعتاد من " سلطة " تعتمد تعميم " المخاوف " لضبط المجتمع، وتستثمر هشاشة الوعي العام، واستيلاءها على كافة المنابر المهمة (التلفزيون، والاذاعة، والصحف، والمدارس، والمساجد.. الخ) التي تصل إليه، وتصيغ ملامحه، لتأكيد مقولتها وشرعيتها فقط، ونفي مقولات الاخرين، وشرعيتهم بشراسة!!. ولذلك، وعلى اهمية تعزيز الاعتراض عليها (سلوكيات النظام)، لا يجب تفويت الانتباه لمخاطر خلايا التكفير النائمة، والتي تتغذى على التواطؤ الرسمي معها، الذي يُهمل برعونه بالغة، مخاطر هكذا سياسة، وتوظيف امني، يفتقر لبعد النظر، والذي يتنافى أيضاً، مع التكرار " الدعائي " المُعلن للجمهور، والخارج، بخصومته مع هكذا مجموعات، وسعيه للقضاء عليها!!. ويبدو ان تخفف " الاصلاح " من النبرة الايديولوجية العالية، وتحوله نحو حزب سياسي براجماتي، أكد على تخليه عن الوظيفة " التكفيرية " التي كان النظام يركن بها إليه، في مواجهة الاعتراضات المدنية والسياسية عليه، دفع به (أي النظام) إلى حماية " المجموعات " و"الرموز" المتطرفة، التي تُسلم قيادها إليه - في مستوى مُعين، حيث لا يُمكن التأكد من ذلك دوماً، وهنا تكمن الخطورة - ضمن تأصيل شرعي لديها، يقول بالخضوع للسطان، وعدم الخصومة معه، والاستجابة لاوامره، ونواهيه!!.
كان الموقع الذي صدر منه التكفير الاخير - والمعتاد - هو جامعة الايمان، التي يقف على رأسها الشيخ/ عبدالمجيد الزنداني، رئيس مجلس شورى الاصلاح، السابق. وهي الجامعة التي تعتمد نظاماً تعليمياً دينياً تقليدياً، يؤصل للتفسيرات المتشددة للشريعة الاسلامية، ويخفض الاستجابة للعقل فيما يخص الدين والتدين، ضمن موقف عدائي من التعليم الحديث، والثقافة المعاصرة، ويؤكد على الاكتفاء بالماضي، والمطلقات، والتقشف في التفكير، للتعامل مع الحياة، وفهمها، والاستجابة لتحدياتها، والتعامل مع مخاطرها. وتنتج دورة " التعليم " الصارمة والبدائية فيها افراداً مسلوبين لايديولوجيا " سلفية "، مُفخخة بتطرف حاد، وينظرون لكل ما لا يتطابق مع تفسيرهم الديني بتجهم وعدائية، ويقسمون العالم إلى منطقتين منفصلتين تماماً ولا تتصلان: دار كفر، ودار ايمان!! (لا تلتزم الجامعة بأي أنظمة ومعايير حديثة في التعليم والتقييم أبداً، فهي تدرس الطالب سبع سنوات، وتمنحه لقب: شيخ، بدون وجود أي معايير اكاديمية واضحة، من تلك الملتزم بها في كل جامعات العالم، وتم تعطيل محاولة وزارة التعليم العالي الاشراف عليها بتدخل سياسي غير مُعلن، وذلك ضمن الاستثمارات، واوراق الضغط التي يلوح بها النظام تجاهها، وقت ما شاء، لا نتزاع أي مواقف منها، ومن الزنداني تحديداً). كما تؤكد المخرجات الايديولوجية للجامعة، وافرادها، ان الانقياد لا يتم سوى لفئتين، هما: العلماء، وأولي الامر. طبعاً " العالم " لا تتحقق له هذه الصفة، إلا ضمن شرطهم ونموذجهم الايديولوجي، وهو هنا يحضر في المثال الاعلى، المُكثف في الشيخ/ عبدالمجيد الزنداني، بمنبريته، واستغراقه في قياس ايمان الناس من كفرهم، كما حدث أخيراً في منحه شهادة " الايمان " للدكتور/ ياسين سعيد نعمان، امين عام الحزب الاشتراكي، بعد طول تشكك فيه!!
وانشئت هذه الجامعة ضمن مجموعة من الوظائف: حراسة موقع "الوهابية " في اليمن، وتعزيز تمددها، في مقابل المجموعات المذهبية الاخرى، بالاضافة إلى توفيرها تغذية لنزوع الزنداني للتمدد في المجتمع، لتأكيد مقولاته، وتعميم افكاره، ونموذجه الديني، ودفع الاستغراق الجماهيري به كـ " نجم " حتى الحد الاقصى. بالاضافة إلى كونها تُمكنه من موقع مُقابل، ومُسيطر عليه، في مواجهة الاخوان المسلمين، ضمن التنافس "الحاد" والصامت بينهما على التحكم بالحركة الاسلامية (التنافس الممتد منذ بداية الثمانينات، بينه وبين المجموعة التنظيمية الملتزمة من الاخوان، التي يقف على رأسها الشيخ/ ياسين عبدالعزيز القباطي، والمؤمنة بالنموذج الحركي والتنظيمي التقليدي للاخوان، وفق الاصل المصري، والتي تُعادي رغبته واصراره على تحويل الجماعة إلى تنظيم " جماهيري " مفتوح، يعتمد على الرموز الدينيين، أكثر من الالتزام التنظيمي الصارم، وشديد الفعالية، بين اعضاء مُنضبطين) وهي كانت توفر له انصاراً مُخلصين وكثر، في هيئات " الاصلاح " يدعمون موقعه القيادي فيه (الموقع الرمزي، أكثر من كونه تنظيمياً الآن، بعد " هزيمته " الضمنية في مؤتمر الاصلاح الاخير)، ويحافظون على حضور مدرسته السلفية، جوار المدرسة الاخوانية " المنافسة " في ايديولوجيا الاصلاح، في حال مُغادرته!؟.
تبدو جامعة الايمان وفق ذلك - ووفق الاتهامات الدولية والمحلية أيضاً - معقلاً حقيقاً للفكر الاصولي المتطرف، الذي يُشكل " الزوادة " الايديولوجية التكفيرية للارهابيين. وضمناً ينهض القائمون على التدريس فيها، بدور "التأصيل " الشرعي لفكرة (الفئة الناجية) في مواجهة " الهالكين " من الكفرة، والعلمانيين، والمرتدين. وتقدير من يقع في أي من الجهتين، بشكل يفرز المجتمع، وحاملي الافكار، بسهولة امام أي متطرف متحمس، لحماية الدين والحفاظ على " اسلام " الناس، سيُبادر إلى تصفية " الخطر " و حامله المرتد، وبشكل يوفر عليه التعب والاجتهاد!. وهذا الشأن يبدو كسيناريو، مُتطابق مع ما يقود إليه التكفير الصريح من قبل الشيخ/ عبد الملك التاج، في مقاله (المنشور بصحيفة اخبار يوم 17 مارس 2007م)، لمجموعة من الناشطين المدنيين، من حيث كونها تمنح " ذخيرة " كافية لاعدامهم، من قبل أي مُتطرف، سبق ان تمت تربية الوحش بداخله، وتعزيز حذره ومخاوفه من هكذا نماذج خطرة: " علمانية " كـ أمل الباشا، أو "عدو مذهبي" كـ محمد المتوكل.
إن جامعة الايمان توفر قاعدة نظرية مكينة للافكار الشرسة، والمعادية لأي صيغة تطور اجتماعي. وهي " تُفرخ " استعداداً نفسياً وإيديولوجياً لدى طلابها، ولدى المتطرفين من خارجها، لنفي الاخر بشراسة، ونزع " الايمان " منه، بشكل يجعل من أي " آخر " مشروع " قتيل " محتمل بشدة. وهي محروسة بعناية من قبل استثمارات السلطة الامنية لها، ومن الذعر الذي تُقابلها به الاحزاب، والمنظمات المدنية، والصحف، والمثقفون، ومن تعاطف بعض شرائح المجتمع " البسيطة "، الذي مرده توفيرها لحلول دينية " سهلة "، ومتنكرة بالعلم، تخص ما عجزوا عن فهمه، أو تجاوزه، وبشكل يتقاطع مع ميلهم للمطلقات، وما يوفره اليقين الديني من اطمئنان. وهي تشكل عبئاً حقيقياً على الاصلاح، والتغيرات التي تُجرى فيه، وتُعطل " المدرسه السلفية " التي يَدفع بها في إطاره، رموز جامعة الايمان المنضوين في هيئاته (مجلس شورى الاصلاح بالاساس)، قدرته على مُغادرة الشروط الايديولوجية "المتطرفة"، وتُفسد عملية تحوله نحو حزب سياسي حقيقي، ذي خيارات براجماتية، ومُتحرر من ثقل الشكل الدعوي السابق (يبدو ذلك العبء والتعطيل واضحاً، ومُكثفاً، في النموذج والدور الذي يؤديه الشيخ/ محمد الصادق، عضو مجلس شورى الاصلاح، ورئيس قسم التزكية في جامعة الايمان، الذي اضاف مؤخراً شروطاً على تخرج الطلاب من الجامعة، تتعلق بضرورة ارتداء الثوب العربي القصير، والعمامة، واطلاق اللحى، وعدم حلقها. واحتج مُعترضاً على وجود "المعازف المُنكرة شرعاً" في افتتاح مؤتمر الاصلاح الرابع، واعتراضه على أي حديث عن تمكين سياسي للمرأة في الاصلاح، ثم تهجمه في خطبه لاحقاً على صحيفة الصحوة، وصحيفة الناس، القريبة من الاصلاح، بتهمة عدم التزامهما). وتُشكل " مغامرات " الجامعة التكفيرية، مصدر احراج دائم للاصلاح، يُقلص من قدرته على تحرير علاقاته الراهنة، مع المجموعات المدنية والسياسية، من ارث " العداء " و" الفزع " السابق، الذي يُلقي بظله عليها، ويكثف من ثقل الحسابات السياسية حين اتخاذه أي خطوة نحو الامام، في إطار ادارته للتوازنات شديدة الحساسية بين المجموعات في داخله، خصوصاً مع الضغوط " المطلبية " عليه، من قبل شركائه السياسيين والمدنيين الجدد، حتى وان كانت ضغوطاً غير مُعلنة سياسياً بشكل مُباشر، بل يتم تمريرها عبر الاعلام، والمثقفين. ويبدو أكثرها ارباكاً، ما يتعلق باتخاذ مواقف من هؤلاء " المتطرفين " المنتمين له، والذي سيؤدي اتخاذه خطوة كهذه، في الوقت الراهن، إلى انشقاقات تنظيمية يحرص الاصلاح على عدم حدوثها، خصوصاً في هذه المرحلة، التي يتسم بها وضعه الداخلي بالهشاشة (وحتى وضعه السياسي الخارجي، بسبب عداء وخصومة السلطة المُعلن تجاهه، وتجاه كافة احزاب اللقاء المشترك)، نتيجة تعقيدات نتائج المؤتمر الاخير، وخصوصاً خروج الزنداني من " التوليفة " القيادية التنفيذية فيه، بما رتبه ذلك من استنفار صامت، وحاد، لدى انصاره.
اعتقد تماماً، ان تحرير الموقف من جامعة الايمان، من هذا الصمت الملتبس المحيط بها، وخلق نقاش جدي حول ما تنهض به من ادوار متطرفة، تُهدد التحول المدني، وتعطل الجهود التي تُبذل لتحديث الصيغة الاجتماعية والسياسية في اليمن، بل وتخلق مخاطر " مذهبية " تهدد السلم الاجتماعي، سيدفع باتجاه تحويلها إلى جامعة حقيقية، ضمن الشروط الاكاديمية المتعارف عليها عالمياً، وسيزيحها من موقع الخصم، ووكر للتطرف، وإلغاء الاخرين. وسينقذنا، أي المثقفين، والادباء، والسياسيين، والناشطين، والصحفيين، من أي مخاطر بـ " تكفير " لاحق، يُعرض حقنا في الحياة لتهديد حقيقي. كما أن واجب الدولة في القيام بمسؤولياتها، في حماية المواطنين، ودرء المخاطر عنهم، يبدأ من حماية هؤلاء الذين تم تكفيرهم اخيراً، ومحاسبة القائمين على هذا التكفير قانونياً، ووضع جامعة الايمان ضمن دائرة المتابعة والاشراف الاكاديمية الحكومية، وتحريرها من البدائية والتطرف.
نشرت في صحيفة النداء