الثلاثاء، 5 ديسمبر 2006

عن المُضمر في اليمني: ريبته، وذعره، وقلة كلامه

ماجد المذحجي
تُنشأ العلاقات بين الأفراد والمجموعات في مجتمعنا، وهي مسكونة بـ "الاحتراس" و "التوتر" المسبق، وضمن انتباه عالي بالآخرين، مُستبطن بالشك فيهم، في إطار تأكيد متواتر على أن ذلك من "حسن الفطن"! إن الإفراط في الثناء و المجاملة، وامتلاء اللغة اليومية بين الأفراد بها، هو شأن يتعدى الدلالة الأولية التي تُشير فقط - بسطحيه وسذاجة - إلى سيادة "الأدب" و "التهذيب" في الملفوظ المتداول، وتعزو أسباب ذلك لكمية "أخلاق" فائضة!! (ليس في كلامي اعتراض، أو استنكار، لـ أهمية التهذيب و المجاملة بين الأفراد، وميزة حضور هذه التعبيرات في العلاقات بين اليمنيين، لكني ارغب هنا بتفكيك دلالات أخرى تمتلكها هذه التعبيرات، بجوار امتلاكنا للأخلاق الحميدة بالطبع!)،  ليُشير بشكل مهم و أساسي - برأيي الشخصي - إلى كونه وسيلة لـ "التحوط" و الاقتصاد في الحديث، وحماية الكلام بالعموميات التي لا تفصح عن رأي، وتضبط إيقاع تبادل الكلام مع الأخر ضمن مقتضيات " البروتوكول " فقط، بما يُنقذ الطرفين من أي مآخذ قد يقود لها "التبسط"و "الاسترخاء" في الحديث! وفي مستوى إضافي، يُصان "قول" الفرد منذ تفتح وعيه، وإطلاق لسانه بالكلمات الأولى. حيث تبدأ منظومة قيم الجماعة المحيطة بمصادرة تعبيره، لضبطه، وتحديد سقف المُتاح من الكلام. ويتحدد شكل الخطاب الذي يُتاح للفرد، أو عليه التصرف وفقه، بناءاً على موقعه في التراتبيه الاجتماعية، ونفوذه، وهويته الثقافية (يتوسل مفهوم الهوية الثقافية هنا - وبشكل إجرائي لخدمة المقال -  التعريف الانثربولوجي الموسع للثقافة والتي يجعلها تشتمل على الدين، والعادات،...الخ). يتزايد طبعاً، وبشكل أساسي معايير هذا التشديد على حجم "المُتاح"، لدى أفراد الأقليات الطائفية والدينية (الإسماعيلين، واليهود كمثال لهذه الأقليات) في علاقتهم المُربكة بالمجموعات الكبيرة (وحتى المجموعات الكبرى - بسبب تجاورها، وتنافسها - تخضع لقدر من هذا "التشديد"، لغرض حماية العلاقة "الطائفية" الدقيقة فيما بينها من الإرباكات المفاجئة، والتي قد يؤدي لها كلام "فالت")، وهي أقليات تميل إلى الاقتصاد في الحديث، وفي العلاقات العامة مع الآخرين من خارجها، بغرض حماية نشاطها اليومي والمعيشي، و معتقدها "الديني" أو "الطائفي"، من التحديق، والمُسَألة المستمرة المسلطة عليهم!!. إن حضور الأفراد في المجتمع ضمن مستويات فرز مختلفة، يترتب بناءاً عليها موقعهم، وعلاقاتهم بالآخرين، ضمن الجماعة الطائفية، أو الرابطة الدموية، أو الانتماء الجهوي والمناطقي، يخلق أشكال مختلفة من "القول" المنضبط، يخص كل فئة من الأفراد، حسب موقعها الذي يحدد كيف، وبأي طريقة، يتم فيها تبادل الكلام مع كل فئة أخرى، وكل واحده على حده، كل ذلك ضمن صياغة نفسية عامه، تميل إلى ضرورة إضمار الرأي، والتأكيد على الريبة، وتنمو حول جذور ذعر كامنة في العمق، تلتف حول المخاوف التي يجلبها الكلام دون "تحسب"، وبحرية، ضمن الضابط أو التقدير الذاتي فقط، وهو الكلام الخطير حين يكون بعيداً عن الوصاية العامة!؟. إن هذا الإضمار كفعل عام يُميز مستوى التعبير المنخفض عن الآراء، أو المعتقدات، أو المواقف، في المجتمع. ينمو ويتعزز بفعل سيادة أخلاق الاستبداد، والمصادرة العنيفة للأخر بسبب الاختلاف، وامتلاء الذاكرة بدورات دم عنيفة كان سببها التصريح بالتمايز الفردي، أو الجماعي، أمام مزاج قوة غاشم، يحمي مصالحه بالتعميمات السياسية والثقافية والدينية. وهو يدل على الهشاشة، وحضور علاقات القوة بمزاجها الاستبدادي بين الإفراد والمجموعات، وعدم وجود تعاقدات تُساوي بين الأفراد، وتمنحهم الحرية في الكلام والتعبير،وتنتمي لخارج أملاءات الحذر و الإحساس بالضعف. إن العائلة، والقبيلة، والمنطقة، والطائفة، هي مؤسسات تواطأت على إنشاء هذا المنظومات، واستساغت ضعف الهوية الفردية، وكرست هذا "الإضمار"، وهي لوحدها - بصيغتها الجماعية - تُقرر المصلحة نيابة عن الأفراد، وتصيغ "كلامهم" ضمن تبريرات أخلاقية وثقافية ودينية وسياسية مختلفة، بغرض تجذير وتمكين فكرة الخضوع في الناس، و ضرورة عدم الإفصاح عن "الاعتراض" أو "التمايز"، وحماية تراتبية السلطة وتشكيلاتها كما هي عليه. ويأتي حضور الدولة أيضاً - بشكلها الحديث طبعاً، قياساً بالأشكال "البدائية" الأخرى، والمسيطرة أيضاً ضمن مجالاتها، ودائرة نفوذها الخاصة - بعد الاستقلال في الجنوب، والثورة في الشمال، ليُكرس "الذعر" من الكلام، والرأي الحر والواضح، فهي تعاقدت - بالقسر والدم - مع المجموع العام، على كونها فقط صاحبة الحق الوحيد بالكلام "الصحيح"، ولذلك قمعت الكلام الأخر، غير الصحيح والمُغرض، وحولت كل كلام لا ينمو حول كلامها، أو يتناسل منه، إلى "مُضمر" في صدور الناس وعيونهم. إنها كدولة مُستبدة، لم تتأسس كتعاقد مدني حديث، ضمن الفهم التنفيذي المباشر - وليس النظري الاستعراضي - لجوهر الأفكار الديمقراطية، و هي حتى في إشهارها الحالي، الذي يدعي عكس ذلك، حولت الكلام العام إلى رطانة سمجة وثقيلة، يتمحور بمجمله حولها، ويدور في فلك "التسبيح" لها، والتعظيم الدائم "لرموزها" و"انجازاتها" دون أي اعتراض، وهي لذلك، وحين تضطر لخفض درجة استخدامها للعنف، تُعاقب في اقل الأمر، على الخروج عن كلامها، بالتشهير الأخلاقي والوطني، والذي سيقول - في حده الأدنى - أن أصحاب الكلام الأخر هم "قليلي أدب"، أو "ناكري معروف"، أو "لا يحرصون على المصلحة العامة".
 طبعاً لا يُمكن تجاوز أن الدولة بصيغتها المستبدة الحالية، هي ابنة التعاقدات البدائية الأولى، ونشأت بالتحالف والتنافس معها، ولكنها فقط طورت أشكال خطابها، وميزته بمؤيدات القوة التي تحتكرها، و تحاول - بنجاح حتى الان - قصر هرمية السلطة على فرد ومجموعة واحده، بعدما كان مقتسم بين مجموعة أفراد، وجماعات قليله. وبرأي، أن نقد هذه المصادرة السياسية و "الأمنية" من قبل الدولة، يجب أن يستدعي بالأساس، نقد المُصادرة الاجتماعية - شديدة الفعالية والنفوذ - لصوت الأفراد، وتأسيس " نظر " واضح، يخص سلوكيات المصادرة النشطة، والتمثيلات الرمزية لها، ضمن الوحدات الأساسية المكونة للمجتمع، وتفحص منظومات التبرير الثقافية والأخلاقية التي تسوغ هذه السلوكيات، وذلك ضمن مرجعية السؤال التالي: كيف يستولي المجتمع على صوت أفراده، ولماذا، وكيف يمكن وقف ذلك؟!