الخميس، 23 نوفمبر 2006

ذاكرة اليمنيين رفوف فارغة


ماجد المذحجي
يمتنع الكثيرون عن الحديث عن أنفسهم بوصف ذلك خفة، أو ربما لكونه افتتاناً شخصياً لا يلائم الرصانة، و يهمل المعيار الاجتماعي السائد الذي سينتقص منهم مباشرة، ويصفهم بالانتفاخ، والتمركز حول الذات، في ظل تلقٍ واسع، يميل إلى مطابقة الأفراد في الصوت العام، ويستنكر أي أداء فردي لا ينشغل به، وينشئ صوتاً خارجه، لا يتمحور حول مقولاته وأولوياته، فكيف إذا دار صوت هذا الفرد حول ذاته؟!!. أستقدم هذه الفكرة كمدخل، وأنا أفكر بغياب الحديث عن التجربة الفردية في التعبير اليمني العام. إن حقل الحديث عن التجربة الذاتية للأفراد في الثقافة اليمنية - في تناوبها السردي بين الشأن الشخصي والشأن العام - لم يحظ بفرصة كافية للتعبير عن نفسه، وبالتالي للحضور والتداول والنقاش، وتأسيس تقاليد في هذا الاتجاه، في ظل ممانعة اجتماعية وثقافية ذات جذور تقليدية شديدة التأصل ترفض الإفصاح الشخصي الذاتي الطابع!!. يمكن تلمس ذلك في نسبة كتب السيرة الذاتية في التدوين اليمني، حيث تنخفض إلى الحدود الدنيا قياساً بأشكال التدوين الأخرى، على قلة التدوين والإصدار اليمني بشكل عام، وتنشغل -إذا حضرت لدى القليلين- بالمطابقة الشخصية للحياة، مع الشأن العام فقط، والتركيز على حضور الفرد فيه، مع تغييب لحضوره الفردي ضمن الهواجس، والأفكار، وأشكال الخبرة اليومية البسيطة والشخصية، التي ساهمت في صياغة تعبيره وحضوره الإنساني اللاحق، وتحولاته الحياتية، ضمن الصيغ العاطفية والنفسية والعائلية، إلا في إطار الإطلالة العابرة، التي لا تغادر مزاج السرد الخجل، الذي يريد التخفف بسرعة من تهمة الأنا المتضخمة التي قد تلتصق به، أو لخشية من انتباه اجتماعي، قد يمارس فعل التشهير والاصطياد في أي اعترافات ذاتية. إن ضمور حضور السيرة الذاتية في التداول الثقافي والسياسي، يصبح ذا دلالة مفزعة، حين يمتنع عنه أفراد ذوو مساهمة أساسية في صناعة التاريخ الوطني الحديث، أو أصحاب تجربة ودور مهم في صياغة التعبير الثقافي، والفني، والفكري... الخ!!. لم نشهد في الغالب العام، تجربة تدوين للسيرة الذاتية، تقوم بها شخصيات اجتماعية وسياسية يمنية، مهمة ومعاصرة، إلا في النادر الذي لا يشكل قاعدة، والذي منه تجربة الشيخ سنان أبو لحوم، ومحسن العيني، ومحمد عبد الواسع حميد الاصبحي ( الخويل )، والدكتور/ عبد الرحمن البيضاني، والعمل المحدود للمرحوم/ عبد الغني مطهر، واللواء/ عبد الله جزيلان، بالإضافة للأستاذ المرحوم/ محمد احمد النعمان، الذي مارس تدويناً شفهياً جزئياً، بتحريض من قبل شخص آخر( ليس يمنياً بالتأكيد، بل لبنانياً كما أتذكر )، تم حفظه لحسن الحظ، ضمن وثائق الجامعة الأمريكية ببيروت، وتم نشره لاحقاً من قبل المعهد الفرنسي للعلوم والآثار الاجتماعية إذا كنت دقيقاً. وهو تدوين على قلته في العموم، كان أقرب إلى التوثيق التاريخي لأحداث معينة ومهمة، من وجهة نظر ذاتية، ولم يغادر هذا المربع ليشكل تدويناً منفتحاً على السيرة الشخصية إلا بشكل عابر. طبعاً لم تقم شخصيات أخرى مهمة بهذا التدوين، مثل الشيخ/ عبد الله بن حسين الأحمر، والمرحوم الشيخ/ مجاهد أبو شوارب، والمرحوم الحاج/ هائل سعيد أنعم، والمرحوم الأستاذ/ عمر الجاوي، والمرحوم القاضي/ عبد الرحمن الارياني، والمرحوم الإمام/ محمد البدر، والأستاذ/ إبراهيم بن علي الوزير، والأستاذ/ عبد الله عبد العالم، و الأستاذ/ علي صالح عباد ( مقبل )، والدكتور/ ابوبكر السقاف، والأستاذ/ محمد سعيد عبد الله ( محسن )، والأستاذ/ علي سالم البيض، والأستاذ/ حيدر ابوبكر العطاس، والدكتور/ ياسين سعيد نعمان، والدكتور/ فرج بن غانم، والمهندس/ فيصل بن شملان، والأستاذ/ عبد الرحمن الجفري،والأستاذ/ سالم صالح محمد، والأستاذ/ أنيس حسن يحي، والدكتور/ عبد الوهاب محمود، والأستاذ/ علي ناصر محمد، والأستاذ/ عبد العزيز عبد الغني، والدكتور/ عبد الكريم الارياني، والمرحوم الأستاذ/ يوسف الشحاري، والمرحوم الأستاذ/ عبد الله البردوني، والدكتور/ عبد العزيز المقالح،والأستاذ/ مطهر الارياني، والأستاذ/ أيوب طارش، والأستاذ/ محمد مرشد ناجي، والأستاذ/ صالح الدحان، والأستاذ/ عبد الباري طاهر، وغيرهم الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية، ذات الصلة الوثيقة بصناعة التاريخ الوطني الحديث، وصياغة ملامحه وتحولاته. وأنا هنا أتجاهل، ولا أتحدث عن مدونات السيرة التي تكتب نيابة عن بعض الشخصيات من قبل آخرين، ضمن مزاج احتفائي يميل للغنائيات النضالية العمومية على الأغلب.
  إن عدم مساهمة كل هؤلاء في التدوين لسيرتهم الذاتية، هو بالحقيقة مؤشر على افتقاد الكثير منهم الجرأة على المساهمة في توضيح ملامح التاريخ الحديث لليمنيين، خشية تشابكات شخصية وسياسية واجتماعية وثقافية، ستلقي بثقلها على أي تعبير سردي ذاتي، يستبطن رأيهم مما حدث، وموقعهم فيه. وهو فعل تعطله مصالح وظروف متشابكة في الوقت الراهن، تستدعي غض الطرف، وركن التاريخ في مكانه المظلم. ولكون المساهمة في هذا الفعل التدويني المهم، هي مهمة مليئة بالمخاطر والحسابات - ذات بعد سياسي على الأغلب - بالنسبة للكثيرين، وهي مساهمة ستكشف عن مناطق مظللة وراكدة في الوعي الوطني العام، تم التعاقد على إبقائها في حيز الصمت، ضمن توافقات ضمنية واسعة ورديئة، تأسست بشكل ساخر على قاعدة الحديث النبوي الذي يقول: " إذا ابتليتم فاستتروا"!!، طبعاً باعتبار أن التاريخ اليمني الحديث بلية مفزعة، شارك الجميع في صياغة ملامحها، وهم بلا حيلة أمامها الآن!! طبعاً مع عدم إغفال أن من مارسوا التدوين لسيرهم الذاتية، حرصوا على صياغة سيرة مشغولة بالعام والتاريخي، متخففة حتى الحد الأقصى من الشخصي والذاتي والمعاصر، لكون ذلك يحرسهم من ارث اجتماعي وسياسي وثقافي، سيصطادهم بقسوة في أي هفوة. هذا بالإضافة طبعاً، إلى ضمور واضح في تقاليد كتابة السيرة الذاتية، على المستوى الوطني والإقليمي، وحضورها الخافت في المشهد الثقافي والأدبي، والذي تنتمي له كتعبير إبداعي ذاتي متميز بالأساس، ولاحتكار الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط بشكل عام لفعل التدوين التاريخي، وتعميم روايتها الرسمية فقط عنه، بما يستتبع ذلك من موقف قمعي ستتخذه من أي رواية أخرى له، تشكك في روايتها هي، من قبل أي طرف، سواء كان فرد، أم جهة بحثية أو سياسية. طبعاً الأنظمة تأتي هنا، كتعبير عن مصالح قوى وتحالفات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، أخذت الحكم بالقوة والغلبة، من قوى وتحالفات أخرى، ومن مصلحتها قمع رواية القوى الأخرى عن الحدث، وقسرها على الامتناع عن أي تأريخ له، باعتبار أن في ذلك تشكيكاً في شرعيتها بالأساس، والتي يتم التأكيد عليها، عبر صياغتها لأيديولوجية وطنية، تحتكر عبرها الحقيقة والصواب في ذاتها فقط!
نشرت في صحيفة النداء

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2006

في محاولة اكتشاف الصوفي.. أو الوعي به



ماجد المذحجي
ينشئ معظم الناس اطمئنانهم عبر أكثر من اختيار، كجزء من فعالية غير منتظمة أو غير مقصودة، لترميم هامش الأمان الذي يعيشونه، ويعانون من تآكله ضمن ظروف متعددة، تجعلهم الطرف الأضعف في الاختبار اليومي مع الحياة. إن الإحساس العالي بالهشاشة، والعيش ضمن منطقة الحاجة، والانتظام الدائم في دائرة القلق، شأن يؤبد الافتقاد للامان، ويعزز الرغبة في إنشاء تعبيرات اطمئنان مستمرة، تغلب عليها الصفة الدينية والروحية، اعتماداً على كون الحيز الديني داخل الأفراد "البسطاء" هو حيز الأمان والمقاومة الأخيرة، الذي يمكنهم من الاستمرار. ويتميز هذا الحيز بكونه مليء بالوعود، وغير مقتصر على فكرة المواساة فقط، فهو يؤكد اطمئنان الأفراد على مصير أفضل مُعلق بـ "حياة أخرى"، ستضمن تعويضاً مجزياً عن ضنك "الحياة الحالية"، ضمن منطق يمتص بفعالية أي نزعات احتجاجية مفاجئة لديهم، قد تهدد ضرورة نقاء الإيمان من الاحتجاج أو الشك. إن إنشاء الاطمئنان اعتماداً على هذه الحيز الإيماني الداخلي، يأخذ تعبيرات واسعة في أشكال مختلفة من التدين "البسيط"، ذو الهوية "الشعبية"، والتي تتمثل في تكرار مشافهات دينية، مُعلقه في موضعها إلى موقع قائلها من الغرض الذي يُريده منها، فهي اتكاليه أحياناً، أو ذات طابع تسليمي، أو ربما احتجاجية ومطلبيه؟ فـ (على الله اتكلنا)، و (الحمد لله على كل شيء)، و(الهم يسر لي أمري)، و (ربي أكشف عني همي)، و و و...الخ، هي تأكيدات شفهية يومية توسع دائرة الاطمئنان المحدودة، التي يصعب تعزيزها بوسائل أخرى، في ظل انعدام القدرة المباشرة لدى الأغلب من الناس على تأمين حاجات اليوم المعاش فقط. لكن كون دائرة الاحتياج مفتوحة دوماً، وتميل إلى الاتساع لا التقلص، وحين يزداد الإحساس بالضعف، يميل الناس إلى محاولة تعزيز تعاقداتهم مع "الوعود الدينية"، بما يكفل ترسيخ اطمئنانهم للخلاص الذي تضمنه لهم، أو لكي تضمن منافع مباشره وآنية، أو لتعزيز يقين ما متزعزع، وهذه شؤون مهمة تحتاج إلى أكثر من "التكرارات الشفهية" اليومية. وهنا تُخلق الحاجة إلى "وسيط" أكثر ثقة، تنتمي فعاليته إلى ذات منطقة "الوعود الدينية"، ويتميز باكتمال شروط المعرفة, والتقوى، والقدرة، ويكون منصتاً للاحتياجات، متفهماً لها، وقادر على إنشاء حلول لها, غير مرهونة بوعود مؤجله، أو مُعلقة على صبر مُفترض، كونها لا تحتمل ذلك!
يحضر الصوفي في الوعي العام هنا ضمن دائرة هذا الطلب، ويسوق نفسه اعتماداً على هذه الحاجة الشديدة إليه، ويتم إنشاء تعاقد غالب بين الناس على الثقة به، كونه صاحب "حظوة" دينية استثنائية، مؤسسة بشكل قوي على فكرة "الكرامات" التي كافأه بها الله، على "معرفة لا محدودة "، و "التقوى" و "انضباط تعبدي" و "الزهد" فوق العادة. إن اجتماع الأربعة به (المعرفة، والتقوى، والتعبد، والزهد) هو اكتمال لشروط القرب من "الله"، الأمر الذي يتيح له الحصول على التفضيل الإلهي له بـ "الكرامات"، استثناءاً بين "العباد". وهو الأمر الذي يقرن أفعاله الدينية أو العامة بـ " نفحة المباركة الربانية "، وتصبح " وعودة " أكيدة التحقق، و "رؤاه" بشارةً للخير، أو نذيراً للشؤم، كونها مؤيدة في كل الحالات بـ "معرفة لدنية"، لا يتوفر عليها نظراء "الصوفي" من "المشايخ" و "الفقهاء" التقليدين، الذي أؤكل لهم الوعي العام التصريف اليومي للشؤون اليومي فقط، رغم أن "الصوفي" ينازعهم في هذا الموقع أحياناً، حين يتضخم موقع احد "الصوفيين" في الانتباه اليومي للناس، لشيوع الأخبار عن تقواه، وعلمه، وزهده.. وكراماته بالطبع.
إن جزء أساسي من العناصر التي تنتج الوعي بالصوفي، تكمن في تلقي واسع يؤكد على استئثاره بمعرفة "دينية" و "روحية" مُعقدة، غير مُتيسرة للعموم، أو حتى لصفوتهم التقليدية. إنها معرفة مُعقدة، تتيح له الاطلاع على أسرار مخصوصة، يعجز عن كشفها غيره، كاصطفاء سماوي له لـ "زهده". وهو تفصيل يخلق إغراءاً شديداً حوله، ويحول الانبهار الأولي به إلى حاجه شديدة تعتمد في تصريف ذاتها على حلوله، وتركن إلى مقولاته، والاطمئنان الذي يشيعه. كل هذا يُنشئ له أفعال، ووظائف " خارقة " ضمناً في الوعي العام، تعزز من رفعة موقعه بين "العامة"، فلمسته مباركه، وتكفل الشفاء " الإلهي " مثلاً، خصوصاً حين يعجز الاستشفاء بالبشري،طبعاً هذا يأتي لكونه مؤيداً من "الله" دوماً بإسرار وتفضيلات غير متاحة إلا لمن يحضر "الله" لديه بسره وعلنه!؟ كما انه أيضاً يستطيع أن يكشف ما استتر عن الأخريين، الأمر الذي يكفل له معرفة "سارق" ما، فبصيرته متصلة بالبصيرة السماوية التي ترى ما لا نرى، وهو أيضاً يُقرب البعيد، ويضمن المحبة، ويفك النحس، والأذى، و "السحر"!؟ إنه نموذج مدهش للناس، فهو يبدد خوف الناس من "الغيبيات"، كونه يحتكر المعرفة بها، ويسيطر عليها ضمناً بتيسير رباني. إنه الوحيد الذي يستطيع الولوج في هذه المنطقة المفزعة بإرادته لتيسير المنافع للناس، الأمر الذي يعزز من قيمة أفضاله عليهم، ويعزز أيضاً من كثافة الاعتقاد به، وهو الاعتقاد الذي سينشط من ذيوع أخبار "الصوفي" أو "ولي الله"، ويعمل على تعميمها في دائرة أوسع بين الناس.
إن حضور الصوفي, ورواجه الشديد، يعتمد على استثماره الناجح في الحاجات البسيطة للناس، وعدم تأجيل منافع الإيمان، ولكونه معززاً بالصلة مع "الله"، فعبره يُصبح القرب من السماء أيسر، والثقة باستجابتها أعلى، كون الدعاء أو الحاجة تُصبح مُعلقة بمن أحبه "الله" وفضله، ولم يرد له طلباً. بالإضافة إلى انه يُحضر كمعادل لفكرة الزهد، والزهد معمار للثقة، بالإضافة إلى أن جزء أساسي من تحقق القيمة الإيمانية في كافة الأديان، تكتمل بالاقتران بفكرة التعفف عن الملذات، وإجبار الذات على البعد عن "الدنيا" و تأكيد التعلق الروحي الخالص -غير المرهون بالمنافع الدنيوية، وفي بعض الحالات "المتطرفة" المنافع الأخروية أيضاً، حيث يصبح فعل التعلق الروحي مبني في جوهرة على فكرة المحبة الخالصة تماماً للذات الإلهية - بالدين. وهو ما يتجلى في نموذج "الصوفي" في الدين الإسلامي، و "الراهب" في الدين المسيحي مثلاً.
ينتج "الصوفي" محبين، و مريدين، كما يُنتج أعداء، ومناوئين، يرون فيه على الأغلب "دجالاً" و "كافراً" يطعن في صحيح الدين، وهو عداء يحضر بشده لدى نظراء "الصوفي" من رجال الدين، الذي يرون فيه منازع غير شرعي على "الجمهور"، يقوم بتظليلهم عن "الحق الواضح"، ولكونه ينطلق ضمناً من معرفة معقدة لا يمتلكونها، ويعمل بشكل غير مُقيد مع الناس، فهو يستطيع تجاوز الظاهر في النصوص حيث يقفون ويعجزون، نتيجة ابتكاره لمبررات باطله كما يرون، لا سند لها في "السلف" وفي الأخبار المتواترة عنهم، كما انه يمتلك وسائل أكثر نجاحاً بالنسبة للعامة في التعامل مع الغيبي ومشكلاته، تنتمي إلى ذات منظومة هذا الغيبي، بينما يقتصر فعلهم في ذات الموضوع ضمن شروط، وبوسائل مُقيدة إلى ارث منضبط في المتون المدونة، أو الأخبار الموروثة! كما أنه يستنفر عداء ذي التفضيل "العلمي" في التعاطي مع الحياة، ومع المشكلات اليومية للناس، كونه يُعطل تواصل هؤلاء الناس مع "المعارف العلمية" ، ويعزز من تفضيلهم لوسائل "غيبية" لم يتم التحقق منها، الأمر الذي يعزز من مزاج شائع يمنح الأولوية للاطمئنانات الروحية، بأبعادها الغيبية، على الاطمئنانات التي تؤسسها المعارف والممارسات العلمية، و كنموذج لهذا كما يرون، يحضر تفضيل الناس مثلا للتداوي على يد صوفي حين إصابتهم بإمراض عصبية أو نفسية، رغم إنه يُفترض بهم الذهاب لطبيب نفسي مثلاً!
إن الصوفي نموذج ذكي لأسلوب ناجح في خلق تعاقدات واجماعات عامه حول فرد، وهو فرد يؤسس هذا الإجماع، وهذا التعاقد عليه، عبر الاستثمار في الاحتياجات العامة والبسيطة بشكل ما، وتقديم شكل من المنافع غير المكلفة، والمؤسسة ضمناً على نفوذه في الغيبي، كما انه يعزز كل ذلك لكونه يتداخل مع الرغبة الضمنية للناس في رؤية نموذج زهد اقرب لصورة الإيمان الحقيقي المستبطنة في وعيهم، وكونه يتجاوز شكل رجل الدين التقليدي الذي تقضم من رأسماله الرمزي بين الناس محدودية قدراته قياساً بالصوفي، وعدم اقتران الكرامات به، ولحضور اتهام ضمني له بالتبرير لـ "ولي الأمر"، والانتفاع منه، والانشغال عن الناس إلا في ما ندر.
نشرت في موقع الحوار المتمدن