الثلاثاء، 6 سبتمبر 2005

عن رواية غرفة السماء: الضجر الأنثوي والجملة الناقصة

ماجد المذحجي
العنوان
(غرفة السماء) الصادرة في الـ 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر هي الرواية الأولى للكاتبة الكويتية ميس خالد العثمان بعد مجموعتين قصصيتين هما (عبث) في الـ 2001 و(أشياؤها الصغيرة) في الـ 2003.
عنوان الرواية ملتو.. غير فاضح.. وأن يعزز نفسه بلوحة الغلاف الذي يشير إلى مزاج الرواية بشكل أوضح (لوحة الغلاف لـ طليعة الخريس – الكويت) وهو يهيئ القارئ إلى تلمس مشهد أولي له علاقة بالكويت القديمة.. أي انه يفصح عن أن الحدث الذي ستبني الرواية هيكلها اعتماداً عليها والتي سينشئ ضمنها. أي الجغرافية النفسية والمكانية القديمة زمنياً للكويت (ما قبل النفط).
أن العنوان يمنح إحساس محايد.. لا يربك ويدفعك للسؤال .. لا يغوي ولا يجعلك تترك العمل أيضاً.. لا يمنح مؤشرات كافيه لوحده.. ولكنه أيضاً يدفع للتفكير!!.

عن المقدمة والإهداء وبيت الشعر والتقديم!
اعتقد دوماً أن العمل الأدبي يجب أن يتخلص من أي إشارات غير العنوان والإهداء بالأكثر.
إن خلق أكثر من غطاء قبل الدخول إلى المتن يربك القارئ.. ولا يمنحه فرصه لخلق تصور مختلف غير ذلك الذي يتم تمريره عبر الأغطية التي تسبق النص الأصلي.
إن العوازل الأولية قبل النص الأصلي تفقد القارئ علاقته البريئة به حيث تقوم بتسريب إشاراتها له مسبقاً بحيث تقود تلقيه نحو منطقه واحده فقط في العمل هي منطقة التركيز الذي يريد الكاتب للقارئ العمل على تلقيها فقط. في هذه الرواية يبدأ العمل بعد الغلاف بالمقدمة....
(قد يجد القارئ أن المرأة هنا ليست شخصية من شخصيات الرواية فقط إنما هي الرواية ذاتها.. لأنها منها وعنها وتسير بها!
حتى أن المرأة هنا هي الراوي ذاته..
إليكم عذاباتها، قلقها،خوفها وشيء من فرحها..
ألمؤلفه)
إن خلق تحيزات مسبقة لدى القارئ مالم تكن لضرورة فنيه مسبقة تعطل تواصله لصالح قرار لم يتخذه.. أن تعرية العمل من أي شيء خارجي عنه يخلق حيوية أكبر له.
بعد المقدمة يأتي بيت عمودي للشاعر خليل مطران كمدخل ثاني تقود به الكاتبة القارئ إلى مقولات العمل.. ولاحقاً يأتي الإهداء كمدخل ثالث.. وهو جميل للغاية ومحايد بالنسبة للعمل ومريح (شخصياً تعاطفت مع الإهداء بشده) وأخيراً يأتي التقديم وهو رابع مدخل إلى النص (هذا إذا استثنينا عنوان الرواية وغلافها باعتبارها مدخلين أساسيين لا يمكن الاستغناء عنهما). إذاً فلدينا أربع مداخل فرعيه غير المدخلين الأساسيين لقراءة رواية واحده.
أعتقد أن هذا يظلم الرواية بصدق.

مقولات النص
تدور الرواية في عالم الكويت ما قبل النفط.. في مجتمع معتمد اقتصادياً بشكل تام على البحر.. وتتشابك خيوط العمل بين رصدها لملامح البيئة الكويتية عبر الأشعار القديمة ووصف السوق والمنزل والعلاقات وبين المتن الأساسي للعمل الذي يعتمد على قراءة الصوت الأنثوي في فضاء مغلق ذكورياً عبر علاقة آمنة بـ سليمان وتهيؤات هذه العلاقة بعد موته. و (بدرية) التي اضطرت للزواج من رجل أخر بعد طلاقها لكي تبقى قريبة من ابنتها الصغيرة التي تسكن مع عمتها في البيت المجاور لبيت زوجها الجديد.
تأتي شخصية الجدة أيضاً نموذجاً نسوياً أخراً للمرأة في مجتمع مغلق حين تتبنى أخلاق الجلاد/ الذكر وتتحول إلى صوت ذكوري مخيف يستمتع مثلاً لاضطهاد بنات جلدتها من النساء، فهي مثلاً تستمع للغاية بضرب ابنها لزوجته وتحرض عليه! هذا بالإضافة إلى شخصية أخرى لازمه وهي (منيرة) اللعوب التي تغوي الرجال وتقوم بالمشاكل في المنزل، باعتبار أن الفساد كلي ولا يتجزأ، فاللعوب هي من تثير المشاكل بالضرورة.
هنالك أيضاً (فضة) الزوجة المكسورة تماماً والتي ترتبك تماماً لصوت زوجها الذي يمعن في إذلالها فتمعن في إرضائه!
إن المقولة الأساسية النص هي عن المرأة في كويت ما قبل النفط.. بالإضافة إلى تسريب ملامح عن نسق المعيشة الفقير المعتمد تماماً على البحر بكل مضاعفات هذه الاعتماد على البحر.. من غياب للرجال لفترات طويلة واحتمال فكرة موتهم وعدم عودتهم ( وحتى هنا فالتركيز كان مضاعفاً على اثر ذلك الغياب واحتمالات الموت على النساء من قبل الكاتبة ).
إن رصد هذا المشهد النسوي يتم عبر سرد سلس ولغة ممتعه وخفيفة.. لكن تأتي المشكلة بعدم منح مساحه للشخصيات الأخرى.. فهناك ظل لكل النساء الأخريات لصالح (آمنه)، وحتى (آمنة) لم يتم منحها فرصة للتطور أو يتم منحنا فرصه للاطلاع على مناطق أخرى في الشخصية غير عواطفها وانفعالاتها العالية في علاقتها بالأخريين.
إن عدم تحرير الشخصيات ومنحهم فرصه للتطور ظلمهم بشكل قاسي خصوصاً وان اختيار الكاتبة وقع على نماذج جميله للغاية خصوصاً نموذج مثل الجدة ومنيرة وفضة (أنا شخصياً لم أعجب بشخصية بدرية المتخيلة جداً). اعتقد أن تحريك دائرة الحدث أيضاً كان سيفتح أفقا أكثر رحابه.. وسيتيح للكاتبة التصرف أكثر بالشخصيات وبالتالي فتح ممكنات للدخول إلى دواخلها وخلق حضور أكثر كثافة لها، وسيمكنها من التحرر قليلاً من المحاذير والأحكام الأخلاقية القيمية (والتي استخدمتها بكثافة مزعجه) على الشخصيات في النص.

عني كمتلقي
في الرواية الكثير من الإشكاليات ولكن يمكم تجاوزها ضمنياً باعتبارها العمل الأول للكاتبة. إن السلاسة في العمل مهمة لكنها ليست كافيه. إن القارئ المتطلب ليس بشخصيه مكتفيه. إنه لا يعتمد على الجملة العاطفية العالية التي عمدت هذه الرواية على تقديمها بل يعتمد في تقيمه للعمل على مساحة الحدث وحركة الشخصيات في الرواية وهي مساحه واسعة لم تتمكن الكاتبة برأي من الاستفادة منها بل اعتمدت على ضغط الشخصيات في مجال تم التعارف عليه (اقصد البنية العاطفية للمرأة وجملة مشاعرها التقليدية والمروجة والتي يمكن توقعها سلفاً).
إن العمل متوسط بشكل ما.. فانا كقارئ لم أغلقه إلا حين انتهيت منه.. أي إنني لم القي به لأنه سيء.. لكن هذا لم يمنعني من توجيه ملاحظات كثيرة عليه. ملاحظات تتعلق بمدى اشتغال الكاتبة على جوانب فنيه خالصة. ملاحظات تتعلق بموقف الكاتبة المتحفظ من علاقات بطلات روايتها.. البناء التقليدي لنفسية بطلة العمل الأساسية رغم ملامحها النفسية المتمردة على السائد.
أن كل هذا أربكني وأنا أقراء العمل. فلم أتمكن من تحديد توصيف رأي ثابت تجاهه!
على العموم كان النص معقولاً وضمن دائرة المتوقع في الرواية الكويتية التي لم تنجز تقاليد كتابه روائيه كغيرها من الاشتغالات العربية الأخرى.
نشرت في موقع الحوار المتمدن

الجمعة، 26 أغسطس 2005

لاشيء حزين الليلة


ماجد المذحجي
لاشيء حزين الليلة ياحبيبتي، فقط الشوارع صارت اكبر في صدري، ووجهك ميت، وانا ادحرج ما تبقى منك إلى النسيان. نعم، بداخلي الان الكثير من الليل، واغنية مجهدة عن الحب، وكلام كثير تآكل قبل ان نقوله لبعضنا.
تُرى هل يجب ان ارتجف اكثر لأصدق ان السفر يأكل من نحبهم ولايترك شيء لنا، وهل اترك اصابعي لتموت في البرد الحزين مثلما مات صوتك في البعيد هناك. كل شيء الان ازرق ويذكرني بالوداع. الشبابيك مفتوحة على جثة شاحبة كأنها قلبي، وانا اهش الوعود التي تبادلناها لتلحق بك في النسيان. صوتي ثقيل وغارق في البكاء ولاشيء اقوله كي اقفل الباب على ظلك الاخير واستريح. 
لست ارثيك، ولكنني اشيع الايام الناعسة، واوقاتنا المسروقة، وتلك اللحظات التي كنت تتسللين فيها من الباب قبل ان اضمك وانت تبكين. اتتبع صوتك الغاضب الذي ترك خدوشه في كل مكان بقربي، وتلك العتابات التي تبادلناها قبل ان نعود لنغفو مع بعضنا. واتذكر تماماً كيف كانت عينيك صافيتين وغارقتين بالحب.
يغفو كل شيء الان ولاعزاء للعاشقين في قصص الحب، لذا ساترك الحنين عارياً في شارع غريب، وسانزع رائحتك من ثيابي وجلدي، وساغسل رأسي من صوتك وملامحك، وافتح الشبابيك لكل الذكريات لتذوب في الريح.
هناك شيء تالف في صدري، والخطوة التي كانت تدلني إليك تركتها ميته على الطريق، ولم اعد اتذكر صوتك وهو يبكي، وماذا كنت تلبسين، أو كيف كنت تدخلين من الباب، ووجهك كيف يصبح حين تضحكين. لم اعد اتذكر لون عينيك، او كيف تسرحين شعرك، واصابعك كيف كانت تنام في كفي، وماذا تفعل قبلتك في روحي، لم اعد اتذكر شيئاً يخصنا، وكل الذي كان يقربنا من بعضنا تركته في الخارج لينتهي معك.
نعم ياحبيبتي احتاج  لان ارى صدري مفتوحاً للهواء وخالياً منك!
بالتأكيد العالم مكان فارغ منذ ذهبت، وانا رجل وحيد يطارد اشباحه، وما تبقى من روحة، وكل الذي كان عليه قبل ان يغرق في الحب. سينقضي ذلك، وسيهلك العشاق في الخيانات الانيقة حين لا يكفي أي شيء لتبرير الاستمرار قرب بعض. ربما ساحب دور الخاسر، وحيل الحزن، واخر رسائلي لكِ، والبكاء قرب كاس ناقص في الوقت الاخير. وربما تنتهين في تأبيد خذلانك من رجال لايفهمون شيء عن الحب، وتذكير نفسك باستمرار انك امرأة تحتاج للاطمئنان، ولاتنام إلا وقد مضغها الحزن.
لاشيء حزين ياحبيبتي ولكن ذلك ما تبقى للعاشق: التمشي قرب قبرك في صدره حيث دفن كل شيء وبكى كثيرا.

الثلاثاء، 5 يوليو 2005

عن ليلة رقص وامرأة تركت العاشق خائباً


ماجد المذحجي
أزيحي فتنتك قليلاً عن الطريق فالعابرين يتعثرون بك، وداري عينيك قليلاً كي لا يُفلت ضوئهما في قلبي.. حاولي أن لا تنتبهي لارتباكي فثمة قلب صغير مازال يتعثر أمام امرأة مثلك تعودت أن تحفر عميقاً في ارتجاف الرجال.
أتعلمين.. لابد أنكِ غبية إذ لم تخبريني باكراًَ بأنك تمرين دوماً من هنا.. كنتُ أفرغت المكان من انتباهه.. وعلقت على أطرافه البهجة والعطر وشهوتي. سيكون هذا مدخلاً لكي أنفذ لكِ بأناقة.. وربما حينها ستدركين أن هناك فتى يخبئ في صدره غابة من الحكايات والارتباك. حاولي في المرة القادمة إذاً أن تخففي الوطء..
أن تتلفتي قليلاً باتجاهي..
أن تعلقي ابتسامة في مداخل قلبي..
أن تنقري شبابيكي برفق.
وحين تفعلين كل ذلك طيري حمامه كي ينتبه الضوء ويداري عينيه.. لأني سأقبلك حينها كما لم يفعل أي عاشق!!.
****
ألم أخبرك سابقاً بأنني حين راقصتك توجعت كثيراً؟؟!. لم أكن استطيع مجاراتك.. وقدميكِ كلما هزهما النغم يتركان حفراً في روحي.
كنتِ كعصفورة سكرانة.. كانت يداكِ تجرحان الهواء وهما يتطوحان.. وعرقكِ كان ينفلت بسلاسة بين فتحة النهدين مثيراً غيرتي وغيرة عقدك. كانت أساورك تلمع في عينيّ.. وصوتك يميل بي نحو الدوار.
****
أخر ما أتذكره أنني ألقيت بروحي على الكرسي.. كنتِ تديرين ظهرك مغادرةً المكان.. انسحب معك كل شيء: الهواء والضوء والرقص.
كل ذلك الضجيج لم يعد يُشعل شيئاً.. وشبابيك القاعة الواسعة لم تعتد تهتز للموسيقى. اكتشفت متأخراً في تلك الليلة أنكِ خبأت روحي في حقيبتك التي كنتِ تغلقينها بسرعة.. أن بهجتي التصقت بمنديلك.. وأن جنوني أصبح وحيداً للغاية.

الأربعاء، 18 مايو 2005

الـروايـة في فـخ التجـريـب والحـنـين


* ماجد المذحجي
واسيني الأعرج اسم قدم نفسه بهدوء شديد في المشهد الروائي العربي.. واستطاع أن يراكم حضوره عبر عقدين ونصف منذ ابتدأ انجازه بـ ( وقائع أوجاع رجل غامر صوب البحر ) في بداية الثمانينات وانتهاءً بـ ( طوق الياسمين ) في نصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين مروراً بـ ( وقع الأحذية الخشنة ) و( نوار اللوز ) و ( فاجعة الليلة السابعة بعد الألف ) و( المخطوطة الشرقية ) و ( شرفات بحر الشمال ) و نصوص المحنه ( " سيدة المقام " و " حارسة الظلال " و " ذاكرة الماء " ) .....الخ .
عبر عقدين ونصف إذاً استطاع " واسيني الأعرج " أن ينجز عدداً لا بأس به من الأعمال الروائية المميزة التي وضعته بين الروائيين العرب المعقولين في كم إنتاجهم الروائي. بالإضافة إلى أنه استطاع أن يقدم منجزه ضمن لغتين بشكل أساسي ( الفرنسية والعربية ) الأمر الذي كفل له الرواج ضمن دائرة واسعة من القراء تتعدى الإطار المحلي والقومي لتصل إلى الأوروبي عبر واحده من أكثر لغاته رواجاً وعلاقة بالثقافة والأدب.
كل هذا وضع واسيني أمام اختبار أساسي.. فكيف يمكن لأديب توافرت له هذه الممكنات بمعنى الرواج أن يقدم نص مميزاً ومقروءاً لدى مستويات متباينة من القراء غير محكومه بنمط محدد من التلقي أو بمرجعيه واحده على المستوى الثقافي؟؟!!.
قدم ( واسيني ) الأديب والروائي منجزاً مرهون - برأيِ - بحس التجريب بشكل عالي والقدرة على المغامرة من ناحية الأسلوب واللغة ونمط العلاقة بين الذاتي والعام ( خصوصاً في الأخير فلقد اشتغل عليه واسيني بشكل مختلف ومميز عن نظرائه من الروائيين العرب ). ولفت النظر إليه كروائي لا يمكن توقع موضوع ولغة اشتغاله اللاحق أبداً!!.
عبر تناولات روائية مختلف استطاع ( واسيني ) أن يقدم نسق متطور للعلاقة الحية مع اللغة يتجاوز منجز أقرانه من الروائيين العرب المشتغلين على اللغة بشكل خاص ( حيدر حيدر و ادوار الخراط كمثال ). فهو استطاع أن يجعلها في نصه أكثر سلاسة ولاتفقد قدرتها على البريق وعلى اصطياد القارئ المفتون بعلاقات اللغة الواسعة وتراكيبها الجميلة.. واستطاع أن يضبطها بحيث لاتستولي على الحدث، بل تشكل رافعاً أساسي في تصعيد حالات الرواية وشخصياتها.. وساعدت على الدفع بجملة نصوصه الشعرية حتى الحد الأقصى .
لم تقدم لغته تنازل أبداً لصالح مكونات الرواية الأخرى، بل تناغمت معها بشكل ملفت بحيث قادت الرواية نحو أكثر من اختبار أمام كاتبها.. فكان عليه أن يحافظ على وتيرتها العالية والمميزة، وأيضاً يجب عليه الحفاظ على الأحداث كي لا تقع في فخ اللغة واستطراداتها، بحيث تبقي خيطاً رفيعاً يمر من خلالها ويحفظ للحدث والشخصيات امتيازاتها كمواد الرواية الأساسية. وهنا كان امتياز ( واسيني ) الذي استطاع أن يقيم توازن رعب بين هذين المكونين الأساسين لروايته. فلم تفقد الرواية بناءها لديه أبداً لصالح واحد منهما خصوصاً في أعماله الأخيرة. بينما في أعماله الأولى كانت اللغة مهيمنة بشكل واسع على المتن وتدفع عبر جمله انفعاليه كل النص لصالحها.
من زاوية أخرى أستطاع واسيني أن يقدم تناولاً فريداً عبر أعماله الروائية لعلاقات العام بالذاتي عبر زاوية جديدة غير متناوله في المنجز الروائي العربي. فهو فتح الباب لتعرية القضايا الكبرى ( الوطن والشهداء والأحلام.. الخ ) أمام المصائر و الاحتياجات الذاتية للأفراد. الفرد في روايته لم يكن مأسور أبداً لصالح قضيه كبرى.. هو يعاني منها دوماً، إنه يفهمها ويريدها أكثر جمالاً.. ولكنه لايُستلب لصالح صراخها. إنه يفككها عبر مجموعة مطالبه الشخصية. والقضية الكبرى التي لا تشبع حاجة بطلة ولا تقدم خدمه له أو لا تساعده على العيش بشكل جيد هي قضية ساقطة. إنه لا يقع في فخ التوهم السائد لأولوية أن يقدم الإنسان نفسه أضحية لصالح قضايا كبرى!!. إنه يؤكد أن القضايا الكبرى هي بحجم الإنسان تماماً والتي تتجاوزه هي قضية تافهة ولا تستحق الانتباه!!.
في روايات ( واسيني ) كان الوطن مؤلماً بحق.. لكن الأكثر ألماً كانت مصائر أفراده الذين أكلتهم مصائر شقيه قررها عنهم المستفيدين من الثورة ( بني كلبون ) والذين تركوهم لاحقاًَ نهباً للإسلاميين ( حراس النوايا ). لم يكن شيء يعوض عليهم سوى اختياراتهم الجمالية التي تتمثل ( بالرقص و والكتابة والنحت و.. الخ ).
كان الخيار الجمالي دوماً لدى ( واسيني ) هو التعويض أمام الخيبة. فلا يمكن تجاوز الإحساس بالخذلان تجاه أحلام الإنسان إلا عبر إعادة إنتاجها لدى الأفراد بصيغ جماليه مميزه ومترفعة عن الاختيارات القدرية السهلة.
 ( واسيني الأعرج ) ككاتب وروائي محترف لم يخضع لتشكيل فني واحد في روايته. لقد استطاع أن ينتمي لمزاج نادر في الكتابة العربية يحترم التجريب.. ولا يخشى المغامرة فيه. خصوصاً على صعيد بناء الرواية ولغتها. في عملين أساسين في منجزه الروائي كما أظن ( فاجعة الليلة السابعة بعد الألف.. و المخطوطة الشرقية ) استطاع أن يقدم نمطاً مختلفاً تماماً عن بقية انجازه الروائي. بل وفريداً في الرواية العربية. حيث استطاع استثمار تقاليد المحكي العربي القديم وتقديمه في صيغه جديدة وعبر تخييل واسع لا ينتمي لذات الحقل الذي اشتغل عليه في بقية رواياته سواء من ناحية الجغرافيا أو اللغة أو طبيعة علاقات الأفراد. إنه يعمل على الدخول في أرضية مكشوفة تماماً ولم يتم تغطيتها بتوقع مسبق.. إنه يُقدم في بناء فني مميز على تجريب مختلف، يحاور في مفرداته الأساسية الأفراد المؤهلين لكي يصيروا دكتاتوريات مستقبليه.. العلاقات الإنسانية المكشوفة أمام الرغبة والأحلام.. الأحزان والشهوات المتطرفة.. واللغة التي تعمل في حقل قديم من ناحية الأدوات والذي استطاع أن ينقذها من مورثاتها الصلبة.
في مجموعه أخرى من أعماله (" سيدة المقام " و " حارسة الظلال " و " ذاكرة الماء " ) يقدم واسيني رصداً حياً وجارحاً حتى العظم للجزائر اليوم.. الجزائر التي خربها القتلة والفاسدين ورجال المخابرات والإسلاميين. جزائر اليوم لم يتورع واسيني عن محاكمتها بقسوة عبر مجموعة أفراد لا تعوزهم الشجاعة بقدر ما تعوزهم ظروف أجمل. واسيني في هذه الروايات كان أمام اختيارات صعبه، فكان عليه إما أن يقول كلمته ويمضي دون أن يفكر بقضية التوثيق التاريخي الدقيق في رواياته للمرحلة التي تمر بها بلده، بل أن يُعنى فقط بالجملة الجارحة كما يراها من زاويته الفردية كمواطن جزائري عادي وكفنان يتألم لما يحدث في بلده .. وأن يقبض على التفاصيل وهي مشتعلة قبل أن تخبو.. أو كان عليه أن ينتظر. أن يقبع بصمت حتى تنتهي هذه المرحلة حامله كل جروحها وعنفها وأوجاعها ومن ثمة يقوم بالتفتيش في طياتها بحياد مؤرخ، وبنهم روائي يبحث بمصداقية عن متن لرواية يؤرخ فيها لمصائر الأفراد والبلد بأكمله في زمن معين.
لقد اختار واسيني الجملة العالية.. أن يقبض على الجمر وهو مشتعل.. لم يتردد أمام اندفاعه الشخصي نحو أحزان بلاده.. غامر بكل شيء: بحريته الشخصية.. بالكتابة.. وبمصائر أبطال رواياته كي يقبض على جمر الجزائر وهو مشتعل!!.
يبدوا أيضاً من المميز في أعمال واسيني هو شخصية ( مريم )... وهي الشخصية التي يتوزع احتفال واسيني بها من عنوان الرواية ( مصرع أحلام مريم الوديعة ) أو في متن الرواية فقط ( سيدة المقام و ذاكرة الماء... الخ ).
هذه الشخصية المركزية بشكل ملفت لدى واسيني تأخذ بعد واحد ومهيمن لدى واسيني، فهي المعادل الوحيد للأحلام والبياض.. للبشر الذين يغامرون تجاه أحلامهم رغم الخيبة.. الوطن الذي سقط في حفرة الدم رغم جماله.
مريم لم تكن شخصية عابره في أعمال واسيني.. إنها - حتى وان لم تحضر في بعض الروايات- هي الشخصية الأكثر حضوراً في أي عمل. الشخصية السرية التي تختفي خلف المتن وعبر ظلها يُصعد واسيني جملته الشخصية تماماً.. وتتم استعادة الأحلام العفوية بكل بريقها. وعبرها تماماً يقع القارئ في غواية شخصية فريدة تتركه دائخاً بمتابعتها منذ بداية العمل حتى انتهائه.
إجمالاً واسيني صاحب هوية فريدة في الرواية العربية لا يمكن أن تتشابه مع غيرها.. وهو قادر على تضمينها مزاج خاص تصطاد قارئها به رغماً عنه. وفي مجموع أعماله قدم ماده روائية خاصة تستحق الانتباه والاحتفاء والمتابعة. ورغم سوء و محدودية التوزيع الذي رافق مطبوعاته إلا أنه استطاع أن يحضر قرائياً لدى جمهور معقول من القراء العرب.
إن تجربة واسيني الأعرج تجربه مميزه بحق ويمكن أن ادعي دون ندم إنها من التجارب الأهم التي تمتلك خصوصية تستحق أن يروجها كل قارئ جيد لدى أقرانه.