الأربعاء، 14 يناير 2009

القتل حين يفصح عن مصير اليمن!


 ماجد المذحجي
يفصح الشروع بالقتل، الذي تعرض له الدكتور درهم القدسي، عن ضعف عميق في الحماية التي توفرها المهنة والقيم المدنية في اليمن للمواطنين؛ حيث لا تشكل الممارسة المهنية، الناتجة عن تحصيل علمي، اعتباراً محترماً ومحمياً في مجتمع يسبغ تقديره فقط على "حمران العيون" من القتلة وقطاع الطرق والفاسدين، ويوفر لهم الحماية بسهولة، وحيث يصبح من السهولة تداول أحاديث، مختلقة أو حقيقية فهي تشير لوعي مخيف وبدائي، منسوبة لوزير الداخلية يبرر فيها قتل الدكتور بوفاة المريض ضمن منطق "واحد بواحد"، ليصبح الموقع الأمني الأول -ضمن هذا السياق- محلاً لتسويغ القتل وتجاوز القانون و"كلفتة" المطالب بالقبض على الجناة ومحاكمتهم!
حتى الآن المعتدي يحظى بالحماية من قبيلته، ويحظى الضحية بالتضامن من زملاء مهنته. الدافع فيما يخص الأول هو روابط العصبية البدائية، والثاني يتعلق بالانتماء لقيم المهنة وروابطها الحديثة. الفارق بين الدافعين هو الفارق بين "حالين" في اليمن وتصورنا لمستقبلها، حيث تتزاحم قيم بدائية وحديثة في مجتمع لم يقرر إلى أين يمضي، وحيث تصبح حماية الجاني تأكيدا على غلبة الاختيارات القديمة والبدائية وسيادة منطق العنف والقوة، وعلى مصير سيئ لدولة القانون والمساواة، وإنكارا نهائيا للوعد الرسمي المتكرر ببلد أفضل، ليصبح المواطنون عرضة للقتل والانتهاكات إن كانوا لا يحضون بحمايات القبائل أو مراكز النفوذ.
لم تكن السهولة في الشروع بقتل الدكتور درهم القدسي لكونه ينتمي لـ تعز، بالنسبة للجاني، بل لكونه طبيبا يمارس وظيفة غير مؤيدة بأي نفوذ أو قوة، سوى امتيازها الأخلاقي كمهنة إنسانية، وإن كان لا يمكن إغفال أن أحد الأسباب الضمنية في عدم القبض على المتهم حتى الآن من قبل الدولة لكون درهم ينتمي لمنطقة متخففة من العصبية القبلية وليست ذات غلبة وقوة ضمن المنطق السائد.
 لقد قام الجاني بالاعتداء عليه دون معرفة مسبقاً، معززاً بوحشية يغذيها منطق القوة العارية من الأخلاق، وثقافة عنف سائدة تحمي الأكثر قدرة على الفتك، مطمئناً لإمكانية العودة إلى القبيلة وحماية "الشيخ" في مواجهة جريمته وبأقل قدر من العواقب، حيث يمكن في أقصى حد تسليم "آخرين" من إخوته أو أبناء عمه كرهائن، في أداء رسمي وقبلي معتاد يتم به المماطلة بالقضايا حتى يهدأ الغضب بسببها ويمكن إما الفرار بالمتهم، وإما الضغط على أهل الضحية بعد أن ينفض التعاطف من حولهم للوصول إلى تسوية خارج القانون.
إن ما حدث هو اعتداء على تصورنا ليمن حديث ومحترم ومتقدم، وهو فعل لم يُبْقِ منطقة آمنة في المجتمع، لتصبح حتى المستشفيات أماكن غير محمية وغير آمنة، قانوناً وعرفاً، يسهل فيها القتل والاعتداء، وحيث يصبح تخلي الدولة عن مسؤوليتها في الحماية مؤشراً إلى انهيارها وانحدار المجتمع إلى غابة مليئة بالعنف.
يحاول الأطباء مناهضة تخلي الدولة الفادح هذا، ويقدمون نموذجاً تضامنياً مدنياً فريداً ينتمي إلى أدوات العصر، ضداً على عنف بدائي أعمى يعصف بكل شيء في اليمن. إن الاعتصامات والإضرابات التي يقومون بها هي تمكين للمجتمع بأسباب قوة حديثة وغير مؤذية، في مواجهة المظالم والانتهاكات، ولتحقيق المطالب وتحصيل الحقوق، وهي فعالية في تراكمها ما يُمكّن من وقف هذا الانحدار المرعب، ويقود إلى إنشاء حمايات خارج العصبيات البدائية للمواطنين.
يحتاج وزير الداخلية، وقادة الأجهزة الأمنية، والمسؤولون في الدولة، إلى القيام بواجبهم في قضية الدكتور درهم القدسي، لنطمئن -على الأقل- أن من يمارس مهنته لن يقتل ببساطة. ويفترض أن يقابل المجتمع مهنة إنسانية عظيمة كالطب بالتعاطف والتضامن أكثر. يحتاج أيضاً مشايخ القبائل لتقديم نموذج محترم في عدم حماية القتلة، وأن يطمئنوا المجتمع بأنهم ليسوا أعداءه ولا حماة للمعتدين على الأطباء أو المهندسين أو المعلمين، وكل الفئات المهنية التي تجعل من هذا البلد مكاناً صالحاً للعيش.
نشرت في صحيفة النداء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق