الخميس، 17 مارس 2011

التورط في مخيلة "البلطجي" وأدواته


ماجد المذحجي
قلص النظام اليمني في زمنه الأخير الفارق المتصور بينه وبين نموذج "العصابة"، وبسهولة يُمكن إدراك أن المسافة المتخيلة بينهما كانت افتراضاً خاطئاً للغاية، ولا تعدو أكثر مساحة ضيقة كان الجميع يتجاوزها سابقاً خشية أو تغافلاً.
ما تفصح عنه الصورة اليومية القادمة من المعارك أمام ساحات التغيير في اليمن، هو هذا القدر الكبير من التماهي بين رجل الأمن والبلطجي، حيث يبدو تجاورهما وتناغمهما في الاعتداء على المحتجين السلميين تكثيفاً بالغ الدلالة عن ذوبان الدولة اليمنية في نموذج العصابات، وعدم قدرتها على العمل خارج أدوات رجال العصابات أو التفكير بمخيلة غير مخيلتهم.

يبدو الإنكار الرسمي المتكرر أيضاً، عن أي دور في هذه الاعتداءات، فعلاً لصيقاً بمخيلة البلطجي المحدودة، حيث يقوم هذا الاخير عادة بـ ضرب أي شخص أمام أكبر حشد من الناس، ثم إنكار ذلك أمامهم، معتمداً على الترويع الذي يحدثه وخوف الشهود من تعرضهم لنفس الأمر: إنها غطرسة عمياء لم يميز النظام أن بإمكانه تمريرها في "الحارات" فقط، وليس في ساحات يراقبها العالم.
يبذل النظام جهداً إضافياً لتوسيع دائرة البلطجة في مواجهة الاحتجاجات في صنعاء مؤخراً، عبر محاولة تغذيتها بالمحيط الاجتماعي لساحة التغيير، وذلك بتحريض سكان المناطق المحيطة بها ودفعهم قسراً لمواجهة المحتجين كونهم متضررين مما يحدث، ويعمد كثيراً لتحقيق ذلك إلى انتحال صفة هؤلاء السكان لمهاجمة الساحة أو تقييد الدخول إليها.
إنه يدفع بدون تردد نحو خلق "فتنة" واشتباكات بين المواطنين، وبخفة لا أخلاقية لا يتورع عن التضحية بهم في مواجهة بعض، وفي كل الاحوال فهو يحاول تسويغ فائض عنفه فقط وخلق غطاء له.
لقد استورد النظام نموذج البلطجي في مواجهة الاعتراض الشعبي الواسع عليه من التجربة المصرية القريبة، ومثلما برر النظام المصري الزائل الاعتداء بالخيول والبغال والجمال على ساحة التحرير بالقاهرة بفكرة "التضرر"، وأن هؤلاء المهاجمين من العاملين بأعمال السياحة قرب الأهرام، ومتضررون من هروب السياح من مصر بسبب الثورة، يستدعي النظام اليمني نفس الفكرة، ويدفع السكان، وبالاحرى ينتحل صفتهم، في الاحياء المجاورة لساحة التغيير في صنعاء، إلى مواجهة المعتصمين: إنها مخيلة ضعيفة لا تستطيع الاستفادة من فشل تجارب الآخرين.
لقد استطاع النظام المصري "الساقط" بكل عنفه أن يقيم مسافة معقولة بين رجل الامن والبلاطجة، ولم تنقل الصورة أي تجاور بين الاثنين هناك في اعتداء، بينما نجح النظام هنا في تكريس النقيض تماماً، حيث تجلى انسجام الامني والبلطجي ورعاية الاول للثاني، بما يضمنه ذلك من تبديد لأي اعتبار أو قيمة وتقدير اجتماعي لاحق لأجهزة الأمن وأفرادها.
حتى الآن فإن سلطنة عمان تبدو نموذجاً مميزاً حول الاستجابة لمطالب الناس على الرغم من فارق التنمية والرخاء الحاصل لديها بالنسبة للدول التي تشهد الاحتجاجات، علاوة على محدودية مساحة الاحتجاج الاجتماعي على نظام السلطنة قياساً إلى المدى الكبير الذي وصلت إليه هذه الاحتجاجات في اليمن.
لقد استجاب قابوس بخطوات متدرجة وحساسة لمطالب الناس، بدءاً بإقالة وزيرين من أهم الوزراء إليه، ومن ثمة القيام بتعديل وزاري واسع في حكومة السلطنة، لينتهي الأمر أخيراً بتغيير جذري في شكل إدارة البلاد تمثل في منح صلاحيات رقابية وتشريعية إلى مجلس الشورى العماني، وإعادة صياغة النظام السياسي للبلاد بأكملا في ظرف 40 يوماً، كل ذلك ترافق مع حوافز اجتماعية مادية مختلفة.
هذه الاستجابة العمانية الواسعة والفريده في نظام حكم خليجي لم يخرج الناس في مواجهته بمطلب إسقاط النظام، تكشف عن الموقع المتخلف لردود فعل النظام اليمني الذي اكتفى بإعلان مبادرات بصياغات فضفاضة ومن دون ضمانات لتحقيقها، مهملاً تأخره الشديد وافتقاده أي رأسمال من الثقة الاجتماعية، ليقدم عقب كل ذلك على أسوأ استجابة ممكن تخيلها: تعديل وزاري محدود شمل تصعيد وزيرين جديدين، حمود عباد للأوقاف وعارف الزوكا للشباب والرياضة، كل امتيازهما هو إدارة أعمال البلطجة والاعتداء على المحتجين السلميين علناً طوال الفترة الماضية، بما يكفله ذلك من تغذية إضافية لأسباب الغضب والاحتقان الشعبي ضد النظام.
إن الاعتداءات شبه اليومية على المحتجين السلميين في الشوارع والمعتصمين في ساحات التغيير في صنعاء وتعز وعدن وبقية المحافظات، هي أفعال كاشفة عن السقوط السريع لنظام اعتاش على العبث بأرواح اليمنيين والتغذي على دمائهم ضمن نسق من مهارات التحايل والقمع والكذب والفساد استمرت لأكثر من 33 عاماً، وما زال يحاول البقاء عبر إدامتها.
نشرت في صحيفة النداء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق