الجمعة، 10 سبتمبر 2010

عن المكان اليمني والتأسيس للعنف


ماجد المذحجي
يبدوا المكان في علاقته بالعنف فاعلاً صامتاً لايُمكن استدعائه إلى الواجهة بسهولة، ولكن يُمكن تحسس المجال "العنفي" الذي ينشئه عبر علامات عدة: مزاج الناس العام فيه، كيف تُدار النزاعات في فضاءه ومقدارها، مدى التوتر في لهجة المعاملات اليومية، ومقدار تبادل قاطنية للمصالح وتسوية الخلافات حولها... الخ. إنها علامات أو تفاصيل لايمكن التأسيس عليها في استنتاجات منضبطه ولكنها تخلق تقديراً ضمنياً عن مقدار تغذية المكان للعنف ودوره في تحفيزه على النشاط.

يبدوا من المستطاع إذا، إعتماداً على هذه التأسيس الاولي أعلاه، قراءة علاقة المكان اليمني بالعنف، من زاوية افتراض كون الاول هو فاعل حقيقي في نشاط الثاني وحاضناً له. ويمكن بالضرورة استدعاء صنعاء باعتبارها تكثيفاً للفرضية، فهي قياساً بمدن يمنية اخرى تبدوا محلاً فائض العنف، تبجل فيها اعتبارات القوة، وتؤسس على هذه الاخيرة العلاقات بين الناس، ليست فقط تلك العلاقات المستقرة مثل السكن وإنما أيضاً العلاقات العابره والسريعة كتقاطع فردين في الشارع أو اثناء التسوق مثلاً، ويبدو البشر فيها كأنهم غيرهم في أماكن اخرى، حيث يثقل أي مكان بمزاجه على الافراد ويُقيد عنفهم تبعاً لمجاله العنفي هو بالاساس. وبذلك يُصبح ذلك الفرد ذو التعبير العنيف في صنعاء مضطراً لخفض درجة عدوانيته في عدن، حيث المكان في الاخيرة ميال لادارة العلاقات بين قاطنيه بهدوء وسلام أكثر.
صنعاء تكوين مديني توسع بشكل متعسف بحيث لم ينشئ قيم وسلوك مدينية بشكل متوازي مع هذا التوسع، فهيمنت عليه قيم وسلوكيات ومزاج قادمه من خارجه ومرتبطه بمواقع القوة المسيطرة على فضاءه بشكل اساسي، وهي تماماً مدينة مشوشة الهوية والحضور، تعبيراتها العمرانية مرتبكة، ولاتنبئ عن اختيار ثقافي واضح، ويبدو أن السعي لـ "تزويقها"، لم ينجح في إخفاء أن بنيتها في الأساس مناهضة للثقافة والسلوك المدني بكل ما يستدعيانه، ومحافظة بشده، على الأصعدة الاجتماعية والدينية، وتعكس تكثيفاً حاداً لارتباك "اليمني" تجاه اللحظة المعاصرة في العالم، وطبيعة جملتها "التحديثية" التي فاجأته بمطالبها!
لقد أدت مركزيه صنعاء الشديده على مستوى الدولة اليمنية إلى جعلها مقراً مكتظاً باليمنيين يتدافعون إليه للسكن والعمل ونيل حصه من نفوذ يوفره القرب من تركز القرار في مكان واحد، وبالتوازي مع هذا الازدحام والنمو المشوه لصنعاء المدينه كانت ضمانات القانون وحضور الدولة، كجهاز يُفترض به لوحده احتكار العنف بشكل مشروع لتسوية النزاعات بين الناس، تضعف باستمرار. وتتعزز بالمقابل ولاءات بدائية قادمة من خارج الفكرة المدنية الحديثة، حيث الترجيح العام والغالب بين الافراد منعقد لاعتبارات الاصل القبلي والمناطقي، والتقدير، والاعجاب به كقدوة، قائم لمن يستطيع تكوين ثروه سريعة وإنشاء نفوذ واسع يتأسس بالعادة على مصالح الفساد والمحسوبية الشائعة.
إضافة لذلك تبدو صنعاء كمعطى جغرافي، وسكاني، مكان "ناشف"، فهي محروسة بالصخور والجبال الجرداء، ومطوقة بحزام "قبلي" من لون واحد، مع حضور كثيف لإرث تاريخي ونفسي مليء بالعداء بينها وبين المجموعات القاطنة في هذا الحزام، فصنعاء التي تتعالى على "القبيلي"، هي من تمنح "القبيلي" بذلك احد الأسباب لينهبها. تفصيليين تاريخين حكما جزء طويل من العلاقة بين الطرفين. وكجزء من انتقام "القبيلي" المجاور لها، عاد إليها من بوابة نفوذ و قوة جديدة، ترتبت له في تسوية ملائمة يتبادل فيها الخدمات مع الدولة "الفاسدة" في صنعاء، ليتعالى عليها هو الان، مُعززاً بموارد قوة مفتوحة، تُيسر له القيام بنهب جديد لصنعاء، ودون أن تطاله ذراع الدولة، أو قانونها المجرد من الانياب.
علاوة على ذلك تفتقد صنعاء ضمن معطاها السكاني للتنوع العرقي والديني، ولاتوجود هويات ثقافية متمايزة لدى القاطنين فيها، كون بنيتها السكانية من نسيج واحد، حيث الهوية العربية والاسلامية غالبة، بما يخلقه ذلك من "تجهم" وطابع محافظ ومغلق، الامر الذي جعلها تفتقد للقدرة على إدراك المختلف واستيعابة، وجعل قاطنيها لايرون الحقيقة والصائب سوى في صورتهم وما استقروا هم عليه، وبذلك يصبح أي اخر محل شبهة وموصوم بالخطأ أو الخطيئة. وذلك على عكس مدينة "كوزمبولتيه" كـ عدن، تتميز باسترخائها، وهو شأن يأخذ جذره في التنوع العرقي لسكانها (هنود، صوماليين، فرس، عرب.. الخ)، حيث للمجموعات العرقية المختلفة الحاضرة بكثافة في البنية السكانية لـ عدن، تأثير واضح في السلوكيات الاجتماعية، والعادات، وشكل تعبير "العدني" المختلف والمميز عن ذاته، وهو شأن عزز من قدرتها على خلق انتماء مدني قوي لها لدى أفرادها، كسر من قابلية لجوئهم للعنف ومن حدة انتماءاتهم الخارجية، القبلية بشكل أساسي، فيلاحظ تبعاً لذلك عدم تعويلهم على هذه الانتماءات القديمة، وأن ألقاب أبناء عدن تُجرد من "ال" التعريف التي تكثف حدة الانتماء القبلي في اللقب والتعلق به وبالحماية التي يوفرها، فألقاب كـ اليافعي، والشميري، تصبح يافعي، وشميري. انعكس كل ذلك على عدن، بهوية ثقافية ثرية ومتنوعة، تستوعب الاختلاف والنزق الفردي أحياناً. بالإضافة إلى انفتاحها الواضح على الأخرين، حيث لعب البحر، كمعطى تكويني مهم في عدن المدينة، دوراً أساسياً في تأثيث مزاج ميال لاستيعاب هؤلاء الأخرين بتمايزهم وشططهم أحياناً.
إجمالاً ادى تداخل كل ذلك في صنعاء إلى إنشاء طاقة عنف فائضة وتغليب مزاجها على الافراد، حيث لاتوجد ضمانات بوجود عدالة صارمة يُمكن الركون إليها في الوصول إلى تسويات هادئة في أي درجة من درجات النزاع، وبذلك تصبح القوة والعنف هما الادوات المضمونة لتحصيل الحق أو انتزاعه من اخر.
في مستوى اخر لمقاربة المكان اليمني والعنف يُمكن استدعاء الحيز الريفي، حيث يستبطن الأفراد فيه نموذج تقيم ثقافي وقيمي، انسحب لاحقاً على باقي المجتمع، مُتعاقد مع فكرة القوة، ويُهيمن عليه سحر العنف، مما يجعلهم يُعلون دوماً من قيمته الاعتبارية، ويحترمون الفرد القادر على تأكيد وجوده، بين أنداده، عبر مفردات هذه  القوة، وتعبيراتها العنفيه المختلفة. وتبدو "الجنبية" رمزاً يُكثف بشكل بالغ الدلالة على التعاقد الاجتماعي العام مع العنف، حيث كثير من اليمنين يعززون كيانهم، وقيمتهم الاعتبارية، برمزية القوة الكثيفة التي يستبطنها ارتداء هذه الجنبية، وتوظيف الحمايات التي ترتبها أيضاً لصحابها، وهم أيضاً يتحصلون من هذه "الجنبية"، على تأكيد حقهم المشروع باستعمال العنف، وتأكيد حضورهم "القوي" عبرها في مقابل الأخرين، سوا لحماية حق منهم، أو لتعسف حقوق هؤلاء الأخرين في بعض الأحيان، حسب ما يُتيح لمرتدي "الجنبية" موقعه في التراتبيات الاجتماعية من سطوة ونفوذ، والتي يُشكل نوع الجنبية وطريقة ارتدائها، أسلوباً في تمييز الأفراد عن بعضهم، بناءاً على قيمتهم الاعتبارية في المجتمع.
نشرت في مجلة صيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق