الخميس، 7 يونيو 2007

«النداء» تختبر الصمت.. هل يحرر صوت الضحية السياسي من حياده الأخلاقي؟!


ماجد المذحجي
لا نعاني في اليمن من أزمة ضمير تجاه قضايا إنسانية محدده (الاختفاء القسري كمثال لذلك) ونحتمي في المستوى الشائع بالعموميات والتعاطف مع قضايا مجردة يتم في الغالب تنحية أي قياس لها في الواقع، ويكفل الصمت في مستوى آخر التواطؤ على تكميم أي ميل للاعتراف بملفات حقيقية وفتح نقاش حولها. وإجمالاً يغيب فعل الإنصات لـ " الأنين " الصامت للضحايا وعائلاتهم، ولا رغبة لأي جهة كانت بتفحص الكلف الإنسانية المترتبة على ركن قضاياهم في نسيان قاسٍ (لا يحتمي استخدامي لتعبير " أنين " بالبلاغة، رغم تقديري لكونه ترهل وأستنـزف باستخدام متكرر في سياقات متعددة. فهو هنا يصف الحال، حيث يقسر الضحية أو عائلته على الصمت تجاه الانتهاك الحاصل عليه، مجرداً  من الحق بالعدالة والإنصاف، ومسلوباً من الحق في الشكوى، ومختنقاً بما هو الحال عليه).
ضمن هذا التقدير يبدو جهد صحيفة "النداء" شاقاً للغاية، كونها بالعادة لا تغادر الرصانة، وانحازت لما هو مهمل، وهي هنا تحتمل لوحدها عبء المبادرة في فتح ملف الاختفاء القسري، بما يكتنفه من حساسيات متضخمة فعلاً (لا تحتكر الدولة هنا الحساسية والضيق من طرح هذا الملف، بل تتقاسمه مع أفراد ومجموعات سياسية أخرى كانت شريكة أو متواطئة أو شاهدة في الكثير من حالات الاختفاء القسري، في ظروف وفترات مختلفة مرت بها اليمن). وهي مبادرة سترتب على "النداء" مسؤولية والتزاماً أخلاقياً ضاغطاً تجاه أُسر الضحايا بالدرجة الأولى، كما أن في تناولها لموضوع أغلق بإحكام لفترات طويلة ضمن تسوية صامته، تسوية اعتمدت على التواطؤ الضمني لا على التفاهم المعلن، بين مختلف الجهات ذات النصيب فيه، تأسيساً بشكل ساخر على فكرة "داريني وأداريك" مبرراً لتكون عرضه لتقديرات سياسية متعسفة لأطراف مختلفة، يقتصر نظرهم للأمر في العادة على كونه مجرد تعريض بهم، ضمن اشتباه متكرر (ساذج وعدائي أيضاً) بالتوقيت والأسباب والموضوع والنوايا (الريبة والتأويل السيئ للنوايا عنصر ضاغط بشدة على التلقي الأولي لليمني عموماً، وهو شأن يكمن جذره في الضعف والإحساس العالي بالهشاشة)، وبأقل قدر من الانتباه طبعاً لطبيعته الإنسانية الصرفة! ناهيك عن "غيظ" الحكومة التي تريد أن تُعفى من كافة مستويات المسؤولية التي يرتبها ويثيرها هذا الملف الشائك، سواء كانت الوقائع المتعلقة به قد حدثت في الجنوب أم في الشمال، فهي في التلخيص النهائي الوريث الرسمي للنظامين السابقين، وتقع عليها مسؤولية الاستجابة للاستحقاقات الإنسانية والحقوقية المتعلقة بالضحايا وعائلاتهم. بالإضافة إلى أن تعريض هذا الملف للهواء، وجعله متاحاً للحديث العام والمفتوح سيعكر على مساعيها الحثيثة لـ "تنظيف" سمعتها أمام الجهات الدولية. وفي إطار ذلك يأتي الجهد الحكومي المبذول لإغلاق ملف الاختفاء القسري لدى المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وهو في أحد مستوياته يستهدف تجنب أي مؤاخذه أو توتر في علاقتها مع مانحين دوليين تقع المسألة الإنسانية والحقوقية في اعتبارهم الحقيقي أثناء تقييمهم لملف الدولة التي ستقدم لها المساعدة، وسبق لليمن أن خاضت اختباراً محرجاً ومؤلماً في ذلك، وتحديداً في قضية سجين الرأي منصور راجح، في ما اشتهر لاحقاً بقرض مقابل شاعر! فضلاً عن محاولة استباق إقرار مشروع اتفاقية دولية جديدة تتعلق بقضايا الاختفاء القسري، وتقف خلفها الأمم المتحدة، بالإمكان أن تتحول إلى عنصر ضغط إضافي، لاحقاً. ولا أجمل – حين إقرارها- من استقبالها بقلب صافٍ، وسجل "مُنظف"!.
في الغالب أيضاً، لدينا قدرة " مفرطة" على التعايش مع الصمت، والاعتياد على "تبريد" ملفات إنسانية ساخنة مثل ملف الاختفاء القسري، وهو شأن ينسجم مع انخفاض الأعباء الأخلاقية التي قد يحدثها هذا الملف ما دام في الظل، ومستوى الحديث عنه –في الحد الأقصى- لا يتجاوز الهمس. كما يأتي انتماء اغلب الحوادث المتعلقة بالاختفاء القسري إلى الماضي (حتى وان كان ماضي قريب كحرب صيف 94، وأحداث 13 يناير86) ليخضعه للفكرة المتعالية: إغلاق ملفات الماضي! وهي فكرة تسوغ لمختلف القوى السياسية اليمنية تجنب "الاصطياد" لبعضها في تاريخ دموي يمني، للكل يد فيه، ويجعلها "مرتاحة" أكثر في علاقتها الآن، وأقل مسؤولية من الناحية الأخلاقية على الأقل.
إن الجمل مبتورة في الخطاب العام، وهي في العموم مجردة، ولا يمكن القياس عليها، والتحقق منها، وجملة حقوق الإنسان المتداولة في "المطالب" أو أثناء الاحتجاج على السلطة، لا يؤسس لها موقعاً أعمق في البني التنظيمية، والاجتماعية، وفي الحياة السياسية عموماً. بحيث ترتب- حال اندماجها- تحويلاً ملموساً في موقف وأداء القوى المختلفة (واخص هنا بالتحديد من احتكموا لمستويات مختلفة من العنف في تاريخهم، فيما بينهم أو في علاقتهم مع الآخريين، مثل الاشتراكي والمؤتمر والإصلاح).
لقد ساهمت القوى المختلفة في أغلب دورات الدم اليمنية، ومنذ أحداث أغسطس 68، وصراع الجبهتين بعد الاستقلال، والقمع الأمني العنيف للقوى اليسارية والوطنية، مروراً بحرب المناطق الوسطى، والانقلاب الناصري في 78، وأحداث 13 يناير 86، وحرب صيف 94، وحروب صعدة المتوالية، وغير ذلك، تناوب الجميع على الإضافة إلى الكلفة الإنسانية المؤلمة والفادحة التي يدفعها اليمنيون، وقابلوا كل ذلك بالصمت الآن، بشكل يعتمد على حياد أخلاقي مخيف ومقرف، لا يهتز أبداً أمام الألم الحاد الذي يرتبه مصير معلق لآلاف الضحايا لم تستطع عائلاتهم الاهتداء.. أو لقبورهم!
إن التحول الديمقراطي الجاري في اليمن (ولست بصدد تقييم كونه حقيقياً، من عدمه هنا) لن يستكمل إلا بإنصاف الضحايا، وتحرير المجتمع من الكراهية المضمرة التي تثقل كاهل الكثير من الفئات، وفتح المجال العام للنقاش تجاه الملفات الدموية التي تم "التصميت" عليها ضمن تسويات متعالية، وتستقوي في الكثير من الأحيان بالشعارات والعموميات الوطنية، رغم كونها ما زالت تعمل بشكل حقيقي على فرز وتقسيم المجتمع بشكل حاد.
العدالة للضحايا ليست فكرة متعالية وفق ما ينظر لها أهل السياسية في تقديرهم البرجماتي السيئ والمستمر، والذي يؤجل الأمر ويحشره دوماً في زاوية ضيقه وبائسة تماما: انتظار نضوج الظروف المناسبة! وهي عدالة يُفترض أن تستقل عن تسوياتهم، وتحتاج إلى قدر كبير من الضمير والانفتاح الشجاع على كل ما حدث، وعلى أدوارهم فيه، بشكل يتجاوز، بردود أفعالهم تجاه مثل هذه القضايا، الاعتذار البروتوكولي -على أهميته باعتباره إقراراً للضحية بالأذى الذي لحقه في أحد المستويات- أو الحياد المفزع.
نشرت في صحيفة النداء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق